احترس… ليكون القادم أنقى
| إسماعيل مروة
إن تخلَّ عنك من تحب أو من تظنه محباً وغادرك، وانتظر أن تهرع إليه لتستجديه أن يعود فلا تجزع، ولا تهرع، الحياة تستمر فيك وحدك، فالمكون الإله داخلك، ويحزن إن أنت ربطت مشيمتك بسواه، أو مشيئتك بسواك! إن تخلَّ فابحث عن جوهر ذاتك، عن ألوهة ابتعدت عنها وأعد صياغتها.
إن هجرك ابنك وعقّك فلا تغضب، ولا تتضرع بالدعاء عليه، بل ادعُ له، ليس مجبراً على احتوائك، وليس مطلوباً منه أن يبرّك إن لم يجد لديه دافعاً يدفعه إليك، لذا لا ترفع يدك له ليقبلها، فتعلمه الانحناء والخنوع، فيبدأ من يد والدين، وينتهي عند أقدام سلطة وحاكم ومتسول.. و و و..!
أذكر أن والدي- رحمه الله- كان حين يرافقني معه يطلب إليَّ أن أقبّل يد أصحابه، ويتبع طلبه بتعريفي- مخدومك- وكل مرة يعيد التعريف، فبدأت بأصحابه الوقورين أصحاب الطرابيش، وانتهيت عند صاحبه أبي علي الإسكافي، ولم أعد أرغب في مرافقته إلا مكرهاً..! وحين صرت أباً كان الشيء الأول الذي فرضته على أولادي عدم تقبيل يدي أو يد الأم أو أي أحد، إلا إذا وجد نفسه مدفوعاً برغبته لهذا الفعل.. وبعضهم يرى أنني زرعت التمرد عليّ عند الأولاد، وأنا سعيد بهذا التمرد الذي لم يصل يوماً إلى درجة تتجاوز الصداقة والتوقير والاحترام.
إن غدر بك بعض أبنائك فلا تبتئس أيها الوطن الجميل، ليسوا كلهم سواء، فمن الناس من يرى نفسه محور الكون، ولا يرى أحداً أكبر منه، ومنه من يرى نفسه ذرة من ذرات التراب، ولفحة من عطره، وهذا إن عقك فلا يعني ذلك شيئاً، رحلته إن طالت وإن قصرت ستنتهي، ولن يجد من يحمله من أحبته، ولن يجد متسعاً له في ترابك الطاهر! وأنت أيها الوطن تحمل وزراً، فإما كان من عقّك ممن ظلمتهم وهجرتهم، ولم تعط أحدهم ما يستحقه من حب، أو ممن أدمنوا تقبيل الأيدي، وأظهروا الطاعة العمياء، وكانوا يأتمرون بأمر مولاهم لا أمرك، لذلك عندما سنحت لهم الفرصة تلمسوا شفاههم، وقرروا الخروج عن طاعة مولاهم، وكنت أنت من يدفع الثمن! أو كانوا ممن تمردوا ولم تعطهم حق نموهم وارتقاء أفكارهم، فوجدوا أنفسهم مدفوعين بكره شديد للإساءة إليك! وكل هذا لا يسوّغ للعاقين أن يعقّوا بلدانهم وأن يبيعوا أوطانهم، وهم وإن استبدلوا الأيدي فإنهم لا يزالون يمارسون لعبتهم المفضلة في تقبيل الأيدي وإن اختلفت الأيدي وتعددت روائحها!!
الجدل كبير بين الهجر والعقوق، هجرته لأنه لا يستحق، هجرته لأنه هجرني، ولم أسمع من قال: لقد انتهت اللعبة، وعلينا أن نبقى كذلك، لأنه ما من شيء يستمر ما دامت الحياة، ما من حب أبدي، وكل ما قيل في الحب من شعر صادق، لكنه صادق في حالة محددة لا تتّسم بالديمومة، لكن النفس ترغب أن تحافظ على كل شيء، وأن تحظى بكل شيء، فهي تريد الحب والحياة والنجاح والمال وكل شيء! لذلك تسوّغ لنفسها ما لا تسوغه للآخر!
فكم من لص وعاهر يرى لصوصية العالم، ولكنه لا يرى ما فعله أو ما يفعله ابنه، ولا يتذكر قول أبي الأسود الدؤلي (لا تنه عن خلق وتأتي مثله)؟! وكم من عاشقة ولهى تشير إلى الأخريات بأنهن لسن على خلق، وأنهن ارتبطن بعلاقات، ولا تنظر إلى ذاتها! وإن سألتها قالت لك: أنا أحب، والحب غير شكل! ومن قال لها: إن الأخرى لا تحب؟!
كم من مسؤول وصل إلى موقعه بعد عراك طويل مع الفساد والفاسدين، وفضحهم في كتاباته وأحاديثه وجلساته ونقاشاته، وظهر سيداً للبروليتاريا، وعندما صار مسؤولاً لم يشبع من السرقة والفساد وكل ما كان يأخذه على أسلافه؟!
وكم من مسؤول عاث فساداً، واستخدم مكتبه وصلاحياته لمصلحته، ولم تبق موبقة إلا ارتكبها، ولم يبق نوع من أنواع الفساد لم ينغمس فيه ابتداء من الأخلاق، وانتهاء بالوطن، وكنت إذا انتقدته ثار، وربما استعدى عليك جهات وصائية لأنك تنال من هيبة الدولة، فأخونا هو الدولة، والدولة هو، ولو تمكن لأعدمك لأنك أشرت إليه وإلى خطئه؟! كم وكم؟!! ولكن فجأة يخرج هذا الذي جاء من الطلائع إلى الشبيبة إلى… إلى…. ليتربع على ظهورنا، يخرج ليشّرح الفساد، ولا تعتريه رعدة خجل أو حياء، فأحبابه موجودون، وخصومه موجودون، ولم يمت الشهود، وقول الرسول (ما زاد مال إلا من شح أو حرام) حاضر، وهو مجرد مسؤول موظف، وبيوته لا تحصى، ومزرعته واللوحة تشير إليها موجودة فهل كان شحيحاً؟ من المؤكد لا، لقد كان لصاً، وكان لصاً وضيعاً حتى استطاع أن يفعل ما فعله، وأن يشكل ثروة يحسده عليها الأمراء والأثرياء!!
مع هذا يخرج أحدهم ليتحدث عن فساد الآخرين ونزاهته، ويتحدث كما لو أنه كان صاحب قرار، ويمارس بطولات خارقة، يعلم عارفوه أنه لم يكن يستطيع النظر إلى وجه سيده!
لا شك أن الوضع فيك أيها الوطن ليس سليماً، وليس بمعافاة، وهذا شأن كل بلدان العالم، ولكن لا يحق لمن كان الجزء الأسوأ والأسود من الحكومة أن ينتقد الآخرين!
ألا يدرك هؤلاء أنهم الجزء الأسوأ؟
ألا يدركون أن المواطن المتلقي أكثر ذكاء منهم، وبأنه لن يسمح بدور له؟
أفهم أن يعارض أحدهم، وهو صاحب رأي وفكر، وأن ينتقد صاحب توجه سياسي، وهو حقه، في أن يفعل، وإن لم يفعل فقد مسوّغات وجوده، أما أن يخرج علينا واحد من أسباب ما وصلنا إليه ليعلمنا النزاهة فهذا أمر غير مقبول! وأن يحمرّ وجهه غضباً لما آل إليه حال المواطنين، ويبكي للأرواح فهذا فوق الاحتمال! فكم من إنسان قتل وظلم ونهب عندما كان جزءاً من الحكومة؟ وكم من فرصة لأكفاء أخذها بتقبيل الأيادي؟ اليوم عرف صديقنا أنه غير راض، وقال: كنت أعبر عن عدم الرضا!! صدقنا، ولكن دع عنك هذا.
لا تحزن يا وطني، أن تلفظ هؤلاء أمر حسن، لتبدأ حياة جديدة، لا وجود لهم فيها…!
إن غادرك من تحب فلا تصفه بالغدر والخيانة، لئلا تمثل دور الضحية ويلازمك، بل قل مرحلة وانتهت، واستعد لمرحلة أكثر غنى، لكن احترس لتكون المرحلة القادمة أنقى، مع إيمانك بأنها مرحلة!
وأنت أيها الوطن لا تنظر إليهم، وابدأ مرحلة جديدة، ولكن حاذر، فأغلب الذين يتحدثون يكذبون، وهم غير مستحقين، وفي أول قافلة سيرحلون!