ثقافة وفن

هل يمكن الحدّ من التعصب؟!

| د. خلف الجراد

للتعصب (Fanaticism) عشرات النظريات والتفسيرات وأضعافها من التعريفات والتحديدات، بعضها يركز على جانب أو عامل محوري ومركزي كالوضع الاقتصادي أو الطبقي أو الاجتماعي (الانسحاق الطبقي والتهميش مثلاً)، وبعض آخر يلجأ إلى التفسيرات النفسية (البسيكولوجية) أوالسلوكية-التربوية، أو مسألة البيئة وما تفرضه على الفرد أو المجموعة من ولاءات دينية أو طائفية أو قومية أو عرقية، في مواجهة بيئة أو بيئات أخرى.. وغير ذلك من تفسيرات وتأويلات ومقاربات. ولكل نظرية مؤيدوها ونقادها في آن واحد: المؤيدون والأنصار يجمعون الأدلة والبراهين و«الاستبيانات» على صدقيتها وموثوقيتها ودقتها العلمية.. إلخ، في حين يقوم نقادها والرافضون لها بحشد أكبر عدد من الحجج والمعطيات والبراهين، التي تؤكد أخطاءها وفشل نتائجها وتهافت أسسها ومرتكزاتها العلمية والموضوعية.
طبعاً ليس في نيتنا استعراض أي من هذه النظريات أو الاجتهادات المتناقضة أحياناً، أو التي تتكامل في أحيان أخرى.
ما يهمنا في هذا الحيّز المحدود أن نشير إلى قلق نحسبه مشروعاً وواقعياً من ارتفاع منسوب التعصب بأشكال وتجليات عديدة، لا مجال لتجاهلها أو إهمالها أو التقليل من شأنها وأهميتها ومخاطرها. فالتعصب قبل كل شيء هو غلوّ في التعلق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو جماعة، بحيث لا يدع مكاناً للتسامح وتقبل الاختلاف والآخر، وقد يؤدي إلى العنف والعنف المتبادل بين الفئات والجماعات وكذلك بين الأفراد، وحتى بين مجموعات معينة وأغلبية المجتمع في أوقات ولحظات حرجة.
وقد توصل عدد كبير من دارسي هذه الظاهرة إلى حقيقة مفادها، أنه من النادر أن نجد سبباً وحيداً مسؤولاً عن التعصب بمفرده. فالتعصب بوصفه ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى، موجود بمختلف المجتمعات، لكن محاوره وتوجهاته وموضوعاته تتحدد بظروف ونوعية وطبيعة هذه المجتمعات ومشاغلها الأساسية. وحتى الشخص الواحد قد يمر بظرف معين أو بضغط عدد من العوامل المتداخلة، فيجد نفسه في وضع متشدد أو متعصب لهذا الموقف أو ذاك، لهذه الرموز أو تلك، كما في حالة تعرض وطنه لعدوان الخارجي من دول مجاورة، أو الإساءة المتعمدة لرموز بلده القومية والوطنية والتاريخية والتراثية والحضارية.
والحقيقة أن عملية الحدّ من التعصب، وإيجاد الوسائل الفعالة لمواجهته ومحاصرته، هي مسألة صعبة، ولكنها ضرورية، وغير مستحيلة من وجهة نظرنا. فنحن من مؤيدي الرؤية القائلة إن التعصب بوصفه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى العلاقات بين الجماعات، يمكن أن يعالج بطرق وأساليب متعددة، يأتي في مقدمتها الاتصال المباشر بين الجماعات، ودراسة ما يصدر عنها من أفكار ورؤى وتصورات ومعتقدات ومواقف، والوقوف على ما يقلقها ويخيفها ويدفعها للانطواء على ذاتها أو اتخاذ وضعيات دفاعية أو هجومية تجاه الآخرين، فعلماء النفس والاجتماع (ولاسيما المتخصصون منهم بعلم النفس الاجتماعي) يعتقدون أن أفضل الطرق لخفض مستوى التعصب يتمثل بجعل الجماعات تتعايش معاً وتختلط فعلاً، ووضعها في مواقف تستطيع كل جماعة من خلالها أن تتعلم المزيد عن الجماعة الأخرى، وأن تستطيع كل جماعة أن تنمي روابط دائمة مع الأخرى. حيث بينت البحوث والدراسات أن زيادة الاتصال بين الأفراد والجماعات تخفض من التعصب والتفكير النمطي السلبي عن الجماعة أو الجماعات الأخرى.
وقد وجد الباحثون المتخصصون أن الاتصال الفعال هو الذي يقوم على التعاون والاعتماد المتبادل بين الجماعات والأفراد، ولكن انطلاقاً- وقبل كل شيء- من المساواة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إذ لن ينجح أي اتصال قائم على تفوق جماعة منهما على الأخرى، أو فوقية التعامل لأي سبب كان.
وأشار العلماء إلى أهمية أن يتحقق الاتصال بشكل غير رسمي (دون تقيد بشكليات أو جدول أعمال محدد). فمن خلال الدمج في العمل والوظيفة والمدرسة والمعهد والجامعة، سيسعى كل شخص (بدرجات متفاوتة طبعاً) إلى معرفة زملائه بصورة أعمق، حيث يشكل هذا التعارف التلقائي عنصراً أساسياً وحاسماً في الاتصال والتواصل والمعرفة الأقرب للواقع.
في موازاة هذا التصور، ركز باحثون آخرون على دور البرامج التربوية الكبير في تعميق ونشر اتجاهات التسامح والوئام والاحترام بين الشعوب والأعراق والجماعات والعناصر ذات التكوينات المختلفة. فإذا كانت الأفكار النمطية والمعتقدات الخاطئة التي تمثل جوهر التعصب، قائمة على خطأ وتشويه المعرفة، فإن التعرف على الوقائع الفعلية ربما يساعد في عملية تخفيض التعصب، على الأقل لدى المستويات التعليمية المرتفعة.
إضافة إلى وسائل أخرى من شأنها الإسهام في خفض مستويات التعصب بين الجماعات، يأتي على رأسها، منح الأفراد فرصة موضوعية وحقيقية للتعبير عن آرائهم بحرية وصدق، بدلاً من اقتصار ذلك على أفراد قليلين ومحددين.
إضافة لما تقدم يؤكد عدد من الباحثين الاجتماعيين على دور التنشئة الأسرية ومستوى وعي الوالدين في تربية الأبناء على التسامح والانفتاح على زملائهم وأترابهم من بيئات اجتماعية أو دينية أو إثنية مختلفة. كما يشار في هذا السياق إلى الأهمية الكبرى للزواج الحر (المدني) ما بين الأسر والجماعات المنتمية لأديان وعقائد، وقوميات وإثنيات ومذاهب وطوائف مختلفة، فمن شأن ذلك كسر الحواجز الموروثة والأفكار والمفاهيم المغلوطة المتبادلة، وخلق نوع من القرابات الجديدة القائمة على الحب والتعاطف، والوئام، والاندماج الاجتماعي، والاحترام المتبادل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن