ثقافة وفن

راحلون…. عندما ترتبط تفاصيل حياتنا بشخص ما … هل نقدر على تجاوز ألم الفراق واستعادة التوازن؟

| ديالا غنطوس

يحدث أن نربط حياتنا بشخص ما، نعشقه حتى النهاية ونكمل حياتنا إلى جانبه، نبني أحلاما معه، نتكىء على كتفه في صعابنا، نضحك ونحزن معاً، نبوح بكل مكنوناتنا بحضوره، وفي غيابه نطالع الصور التي جمعتنا، بشريط حياة يعبق بتفاصيل لا تنتهي، باختصار، شخص يكون عالمنا وحياتنا لا تسير إلا بوجوده، هكذا نعتقد ونكرر أن الحياة من دونه لا تعني شيئاً بالنسبة لنا، ويحصل أن نفقد هذا العالم في غفلة من الزمان، قدر يخطفه بعيداً عنا إلى مكان لا نستطيع الذهاب إليه، هو قدر وليس خياراً، عندما يُغيِّب الموت أحبتنا وليس بوسعنا سوى الصلاة لهم والحزن على غيابهم، قد تتعثر خطواتنا من دونهم ونهيم في عالم كانوا يُسيِّرونه من دون أن نعلم، وقد نتمالك أنفسنا ونستلم دفة السفينة بعد أن رحل القبطان، متجمِّلين بنعمة النسيان…

إن كانت الذاكرة أحسن خادم للعقل، فالنسيان أحسن خادم للقلب.. كثيرة هي الأمثال الشعبية التي تحدثنا وتحُثنا على النسيان عقب الفراق، وعلى الرغم من ندرة قصص الوفاء والإخلاص لذكرى من رحلوا، إلا أن التاريخ دوَّن في طياته عدداً لا يستهان به من الروايات حول أناس عاهدوا شركاءهم وصدقوا، وهذا ما تطالعنا به قصة من أرض الواقع كان بطلها الأرجنتيني «روكي» الذي جمعته الدروب بالفتاة التي سلبت لبّه بجمالها «جوليتا»، كانت البداية حين التقيا مصادفة عام 1937 في أحد مقاهي مدينة بوينس آيرس الأرجنتينية، لم يحتج الأمر سوى نظرة وبضع كلمات كان قد سمعها خلسة أثناء محادثتها مع صديقتها على طاولة مجاورة عبرت فيها عن أفكارها وإنسانيتها، كانت كافية لكي يتيقن روكي بأن تلك الفتاة هي من بحث عنها طوال حياته وأنها توءم روحه المنتظر والشخص المناسب ليمضي معها القادم من العمر، وهو ما شعرت به جوليتا بدورها تجاه روكي الذي لم يتردد بإخبارها تواً بالمشاعر التي تملكته تجاهها، وسرعان ما تكللت علاقتهما بالزواج الذي زاد من بريق حبِّهما الذي كانا يربيانه كما الطفل الصغير الذي كبُر ونضج سنة تلو الأخرى، إلى أن وصلت الرحلة إلى آخر محطاتها برحيل جوليتا عام 1993 بعد 55 عاماً ازدهرت بالألفة والوئام والغرام، وفرَغ المنزل على روكي لكن خافقه لم يفرغ من حبها، ولم تسأم روحه تتبعها، زهد روكي في كل شيء سواها وهجر ما تبقى له بعدها واعتنق ذكراها وكأن الزمن توقف به في آخر لحظة أمضياها معاً، فاتخذ روكي قراره بملازمة قبر حبيبته الذي لا يبعد عن منزله سوى بضع دقائق، ليكون الزائر الأول الذي يدخل المقبرة كل صباح ليلقي على حبيبته التحية قائلاً «أهلا حبيبتي.. أنا هنا»، يمضي يومه بجوارها حتى يحين المساء وتغلق المقبرة أبوابها خلفه.
كان همه الوحيد ألا يشعرها بالوحدة والضجر ولم يحُل بين ذلك العجوز التسعيني الواهن وبين مبتغاه أي ظرف أو سوء طقس أو مرض، واظب روكي على جلب الهدايا والاحتفال في ذكرى زواجهما كما باقي المناسبات، وكان يروي قصته ويسرد تفاصيلها لجميع زوار المقبرة ممن انتابهم الفضول من وجوده الدائم فيها، عشرون عاماً أمضاها على هذا الحال، إلى أن وصلت قصته إلى نهايتها عام 2013، بعد أن أنهكه المرض وغاب مكرهاً عن مرقد زوجته شهراً كاملاً، ليعود إليه مقيماً وليس زائراً محققاً بذلك مرتجاه بأن يبقى ملازماً جسداً وروحاً لحبيبته الأزلية.
لكن مع كل ما نكنُّه من إجلال لمواقف من قرروا اعتزال الحياة ومتاعها والتنسُّك بغياب أحبائهم، إلا أنه يجب علينا بالمقابل تقديم كل الثناء لمن تمكنوا من استجماع قواهم بعد وهن نتيجة ما ألمّ بهم من حزن لفقدان الحبيب، وصمموا على الاستمرار في ممارسة دورهم الذي مازالوا أحياء لأدائه، وقد قدمت لنا السينما العالمية العديد من تلك الأمثلة، أذكر من تلك الأفلام ما قدمه المخرج ألكساندر بن عام 2002 واسمه «عن شميدت About Schmidt»، وأبدع في أداء دور البطولة الممثل العريق جاك نيكلسون الذي جسَّد دور موظف بسيط ناجح في عمله، لكنه نزق الطباع، يصاب بالإحباط حين تنقلب حياته بعد أن وصل إلى سن التقاعد، يمضي وقته في المنزل متذمراً وآسفاً على نفسه من هذا الوضع المزري الذي يعيشه بعد ترك العمل، تحاول زوجته هيلين أن تخفف عنه قدر المستطاع فتقترح عليه أن يشتري مقطورة تمكنهما من السفر عبر الولايات لعل ذلك يعدل من مزاجه بعض الشيء ريثما يتعود نمط حياته الجديدة، لكن لسوء حظه فإن زوجته تفارق الحياة بشكل مفاجئ تاركة إياه وحيداً بغياب ابنته التي تتحضر لزفافها من شاب لا ينال رضا والدها، تنقضي مراسم الجنازة فيجد شميدت نفسه يمكث في المنزل وحده للمرة الأولى بعد زواج دام 42 عاماً، أسير أفكاره المتناقضة يصارع شعوره بالعجز بعد أن اكتشف متأخراً أنه لم يفعل أي شي مختلف ذي جدوى طوال حياته، يستذكر زوجته فيتجول في غرفتها متفقداً أشياءها ومستحضرات التجميل التي كانت تستخدمها، يتفحص أدوات المكياج، ويفتح خزانتها لرؤية ملابسها فتقع يده على إحدى علب الأحذية، يفتحها ويجد بداخلها رسائل عاطفية مرسلة من أحدهم إليها وتحمل توقيع هذا الشخص، ونتيجة للصدمة من خيانتها له تجتاحه ثورة غضب فيحزم أشياءها في صناديق كبيرة ويرميها في القمامة، ويتجه لمواجهة الرجل صاحب الاسم الذي ذيلت به تلك الرسائل، يخبره بأن تلك العلاقة قد مضى عليها ما يقارب 25 إلى 30 عاماً، لكن ذلك لم يكن كافياً لإخماد نار الغضب التي تلتهمه، ما يخلق لديه ردة فعل تدفعه لتناسي وفاة زوجته، وكأنه سعي منه لإيجاد سبب يدفعه لعدم الأسف على رحيلها، وكأنه نال حريته من عبء كان ملقىً على ظهره، يستمتع بإهماله لنفسه ويجعل المنزل في حالة فوضى يرثى لها، ويشعر باللذة حين يبتاع المأكولات الرخيصة التي كانت تمنعها زوجته فيجلبها للمنزل بحرية الآن مستهدفاً إثارة حنقها ظناً منه بأنها تشاهده من مكان ما، يستمتع بالنوم على الأريكة أمام التلفاز، ويتفنن بتكويم الملابس القذرة المتناثرة بكل أرجاء المنزل، يبرد غضبه بمجرد انتهائه من القيام بكل تلك الأمور، ويراوده الشعور بالاشتياق إلى زوجته التي تمكن من إغاظتها بأفعاله الرعناء، هو ليس اشتياق العاشق لحبيبته، بل أشبه بحنين لشخص كان يختصر منزلاً يحمل ذكريات حياة كاملة بحلوها ومرِّها، يستفيق شميدت من هفوته ونوبة الرعونة التي حلت به، ويبدأ التفكير بأن يفعل أي شيء ذي قيمة خلال المدة القصيرة التي بقيت له في مشوار حياته، بدءاً من قبوله مرغماً بزواج ابنته من الشاب البسيط الذي اختارته وتشعر بالسعادة معه، لتكتمل فرحته لاحقاً عندما تصله أخبار سارة عن نجاح طفل أفريقي قام سابقاً برعايته مالياً ومراسلته عبر أحد البرامج الخاصة بكفالة الأطفال في دول العالم الثالث، وهكذا يشعر شميدت بجدوى ما قدمه، وبقيمة الحياة التي مازال بإمكانه أن يعيشها وأن يقدم الكثير من الأعمال المفيدة خلالها، من دون أن تعيقه وحدته وعيشه عن أي أنيس يشاركه مسرات الحياة ومآسيها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن