ثقافة وفن

بعد أن.. قبل أن..

| إسماعيل مروة 

تداولت القنوات الإعلامية ووسائل التواصل خبر مقتل آكل قلب الجندي السوري، وبعضها قال: آكل قلب الجندي السوري، وأردف أو من تظاهر بأكل قلب الجندي، وبعض القنوات عقدت حوارات حول مقتله على أيدي قادته بعد مدة طويلة على فعلته التي قام بها أو مثّلها، كما عرضت له مقاطع تحاول أن تسوّغ هذه الفعلة، التي يقول فيها: إن أهله قتلوا أمامه، وأنه على استعداد للمثول والمحاكمة!! وأعادت هذه القضية قصة الأردني الكساسبة الذي تمّ تصفيده في قفص، ومن ثم تمّ حرقه، كذلك تعيد قصة وقصص مصير العشرات من الذين تمّ مثل هذه الأفعال معهم ولم تصور ولم تصل إلى الإعلام، والعشرات الذين ينتظرون مصائر مماثلة!
المشهد مخيف ليس بما يقدمه، بل هو مخيف في مرموزيته إلى التمثيل بالجثث! وما تزال حاضرة في بطون الكتب والذاكرة مشهدية حمزة بن عبد المطلب ووحشي وهند بنت عتبة، وفي الكتب المنقولة من يمارس مثل الذي مارسته القنوات الإعلامية، فبعض الكتب تقول مضغت، وأخرى تقول مجّت الكبد بعد أن تناولته بأسنانها، ولم يسوّغ لها فعلها، وقد كان حمزة قد قتل من أهلها ورجالها! القصة لا تتعلق بالسؤال: فعل أم تظاهر؟! وسواء فعل أو تظاهر فهو قام بفعل التمثيل الذي ينهى عنه أي دين أو شريعة، فالمقاتل يقاتل وقد يقتل سواء كان من الجيوش أو من المهاجمين، ولكن لا يمثل بالجثث، ولا يفعل بها شيئاً.. أما قالت أم المقاتل المعلق على الجدار: إن الشاة لا يؤلمها السلخ بعد الذبح؟! هذا حق فالجندي أو الإنسان، في أي مكان قتل فيه قتل وانتهى الأمر، لكن فعل التمثيل بالجثة الذي لا يؤلمه يؤلم الآخرين، يؤلم كل إنسان يرى، يؤلم كل أم وهبت ابنها للقتال والجندية، يؤلم كل أب يبحث عن جسد ولده الغائب، يؤلم كل طفل رأى المنظر سواء كان ابناً لهذا الجندي أو أخاً أو لم يكن.. وأخطر ما في الأمر أنه يعزز فكرة التمثيل والتعذيب لدى شرائح عديدة من المجتمع، فما هو منكر يصبح أمراً عادياً، ويصبح الانتقام طريقة مثلى لأي واحد من الناس، ولا أقف عند قضية خطرة، وهي تكريس صورة الإنسان العربي الوحشية وغير الآدمية عند الآخر، وهذه القضية على أهميتها لا أقف عندها، لأنها لا تمثل قيمة إنسانية، بل قيمة سياسية آنية، وكل قيمة لا تعني الإنسانية بشكل مباشر لا تعني شيئاً، فلا يهم أن يراني العالم كله متحضراً وأنا لست كذلك، بل الذي يعني أن يكون الإنسان إنساناً في ذاته، الجرح يؤلمه، الظلم يؤلمه، القتل يقتله، لا أن يتحول هذا الإنسان بحكم الفساد والمصالح والجهل المطبق بكل شيء إلى آلة للقتل والتمثيل والتدمير.. وما لا ننتبه إليه، وهو أخطر ما في الموضوع هو النتائج الكارثية على الفاعل المجرم لا على القتيل المحروق أو الممثل به أو المستخرج قلبه أو كبده، ونحن لا نعتني لأن كل واحد فعل مثل هذا الفعل ينزوي في بيته أو بيئته، وقد يقضي حياته المتبقية كلها في صراع مستمر ولا أحد يدري به! قد يصبح مريضاً أو مجنوناً أو سفاحاً، ولكنه في مجتمع يحجر عليه ولا يداويه..! بعد حرب العراق واجتياح العراق شارك جنود أميركيون، بعضهم شارك فعلياً ومارس الجريمة، وبعضهم شارك ولم يمارس الفظائع، وبعضهم عذب الناس ومثل بهم، وبعضهم كان مجرد شاهد على هذه الممارسات غير الإنسانية، وفي كل الحالات نشرت وكالات الأنباء، وتناقلنا الخبر من باب الشماتة بهم، بأن جلّ هؤلاء يعانون أمراضاً نفسية، ودخلوا في مصحات عقلية لمعالجتهم من الآثار النفسية المدمرة للحرب العراقية، سمعنا وتناقلنا، ولكننا لم ندرك أن الإعلام الأميركي عرض هذه الحالات، بل قدم عملية حسابية دقيقة للمبالغ التي تتطلبها معالجة هؤلاء، والمدة الزمنية التي تستغرقها معالجة كل واحد على حدة، والآثار السلبية المجتمعية لتنامي هذه الظاهرة، وقد قامت الجهات المختصة هناك باحتواء الظاهرة ومعالجتها بدرجاتها المتفاوتة، وهؤلاء جاؤوا بآراء مختلفة، وينظرون إلى المجتمعات العربية نظرة استعلاء وعداء، فما بالنا عندما يكون القاتل أخاً أو جاراً أو صديقاً أو ابن وطن؟! لن أخصّ أمراً أو شخصاً، فكم من القصص المرعبة التي سمعنا عن جار قتل جاره؟ وعن صديق أنهى حياة صديقه؟ وعن رجل اختطف وابتز واغتصب من معارفه؟ كثيرة هي القصص والحكايا التي لم نكن نصدق أن يفعلها أحد في أي مكان في العالم بأعدائه وخصومه لا بأبناء وطنه وأهله وأقربائه!!
مع أن الحرب على سورية لم تنته، وما تزال رحى الحرب دائرة، إلا أنه ينبغي أن نسأل ماذا عن الغد؟ ماذا عن كل من رأى ما حصل أمامه لأناس يخصونه؟ ماذا عن ردود أفعال المجتمع عامة وهو يتابع مسلسل الفتيات السوريات اللواتي أجبرن على الدعارة، وهنّ يبحثن عن ملاذ آمن؟ ماذا سيبقى في الذاكرة من ألم للفاعل نفسه، الذي قتل وعذب ومثّل، الذي سرق وباع وصار مالكاً، الذي هرّب وقبض، الذي مارس القوادة وعذّب من أجلها، ووو..
هل تكفينا مصحات؟
أنا على يقين أن مساحة كبيرة من بلداننا العربية تمثل مصحات مفتوحة، والمسؤولية كبيرة على عاتق المسؤولين، أهم من مشروع إعادة إعمار المدن والبنى التحتية مشروع إعادة إعمار الإنسان، الإنسان الذي شرخ من داخله، الإنسان الذي صار كل همه (اللهم أسألك نفسي)، الإنسان الذي يسوّغ الانهيار الأخلاقي، وربما مارسه وتاجر به، الإنسان الذي لا تهزه مأساة امرأة أو تمثيلاً بجثة، ولكن يأتي ليقول: هذا ما فعلته الحكومة وهي المسؤولة! ويأتي آخر ليقول: هذا ما أرادته المعارضة! ومهما كان الأمر، فالفاعل شخص أو أشخاص لا جهة، ويجب أن يحاسبوا مهما كانت أسماؤهم، والوطن هو المغدور بإنسانه وأهله.
بدأت معالم الطريق تصبح واضحة، وبدأت المآسي بالتكشف، وبدأت الزوايا بالتدوير الناعم، ولكن مع وضع الحرب خطوط النهاية، علينا أن ننتبه للآثار الكارثية التي تحول المجتمع إلى مصحّ لا أحد يقدر على مداواة أحد، ناهيك عن الندوب النفسية والروحية التي تركتها ممارسات بعض المتنفذين والمسؤولين في إطار مماثل من الاتجار غير المعلن! ولعل هذا أخطر بكثير مما رأينا في الإعلام من قتل وتجارة بالدعارة، لأنه يمثل قمة الفجيعة عندما يفقد الإنسان إيمانه بالغد في وطنه.
بعد أن فعل الكثيرون أفعالهم بدأت الاستدارات، فهل تبدأ مع عملية جذرية تعيد الثقة بين المواطن وأرضه وإنسانه الذي يجب أن يلوذ به لا أن يخاف منه؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن