مفهوم الثقافة وجذور مفهوم المثقف
| حسين مهدي
إن مصدر كلمة ثقافة في العربية هو من الفعل الثلاثي ثقف، ثقف الشيء ثقفاً وثقافة وثقوفة ومعناها حذقه وثقف الرجل، أي إنه رجل حاذق أو صار حاذقاً أو ماهراً.
ويقال ثقف الشيء بمعنى تعلمه بسرعة والثقاف ما تسوى بها الرماح. وتثقيف الرماح معناها تسويتها أو صقلها.
من المثقف؟
من ناحية تعريف المثقف وإجابة عن هذا السؤال يرجح غالباً أن تعريف المثقف ليس بالإجراء النظري السهل لأنه عملية تتخذ كموضوع لها حقلاً متغيراً حركياً خاصاً بالأفكار والأيديولوجيات التي ترتبط بصفة غير مباشرة ومقنعة بمصالح موضوعية ومادية. كما أن موضوع المثقف والحديث عنه يأخذ أبعاداً عدة وتشعبات كثيرة أولها ما يتعلق بتحديد مفهوم المثقف وتصنيفاته. ويجب عدم تجاهل بدايات هذا المفهوم.
كما أن المثقف هو إنسان امتاز عن بقية أبناء مجتمعه بقابلية على التفكير وإدراك التحديات التي تواجه محيطه الاجتماعي وبخزين معرفي متمايز أيضاً، وباتخاذه لمواقف محددة في قضايا حساسة وحاسمة. وليس شرطاً أن يكون قد حاز درجة رفيعة من التعليم، أي ليس شرطاً أن يكون التعليم هو مصدر أو مشروعية المثقف.
والمثقف هو شخص يفرض نفسه ووجوده في مجتمعه وهو ليس بحاجة إلى تحديد لأنه يعلن عن نفسه عبر ممارسته العلمية وإن كانت هذه الممارسة ملتبسة عند المثقفين بسبب الالتباس الحياتي الحاصل.
جذور مفهوم المثقف
مفهوم المثقفين (Intellectuals) حديث نسبياً، يعود استعماله في الفرنسية إلى قضية دريفيس. ولكن قبل استعماله الشائع والأعم، كان هناك تنويه دائم بوجود خاصة، أكثر حكمة وعلماً وثقافة من عامة الناس، وبالأخص من فئاتهم الوسطى. هؤلاء الخاصة كانوا يسمون (اكليروس) في القرون الوسطى، وفلاسفة في عصر الأنوار.
والحال فإن – المثقفين- الحديثين ورثوا تقاليد مناقضة تنضاف إلى تركيب زمرتهم الشديدة التنوع والاختلاف. والمؤكد أن مفهوم المثقف في الغرب ارتقى بعد ميلاد قضية دريفيس إلى معنى «أقوى» وأكثر تحديداً لدوره الريادي في المجتمع كصاحب رأي وقضية، وذلك عندما كتب المفكر الفرنسي أميل زولا مقالته الشهيرة:«إنه اتهم» والذي أدى بدوره إلى ظهور بيان حمل توقيع المثقفين في فرنسا على وثيقة تطالب بإعادة محاكمة المتهم «الفريد دريفوس» بقضية تجسس لمصلحة ألمانيا النازية، وذلك بعد ظهور أدلة تشهد ببراءته ومحاولة الحكومة اليمينية «طمس» الأدلة الجديدة على براءته. رسمت تلك القضية معايير جديدة للمثقف أو المفكر ترتكز على شرطين: أحدهما رغبته وإصراره على «كشف الحقيقة» والشرط الآخر أن يكون شجاعاً، وأن يكون مستعداً للذهاب بالنقد إلى أبعد مدى، وأن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ مجتمع أكثر إنسانية.
وعلى النقيض من موقف أميل زولا الشجاع كمثال على المفكر الحقيقي، يبرز فرناندو كاردوسو وهو مثقف برازيلي بارز وعالم اجتماع، اختير مفكر العام بسبب كتاباته الجريئة عن الفقر وظهور الطبقات الاجتماعية نتيجة لتطرف الرأسمالية، كما عرف بتأييده الشديد لقضايا الليبرالية، ويحظى بشعبية لانتصاره لمآسي الفقر وتدني مستويات الضمان الاجتماعي، وخلال تلك الفترة وصلت ملحمة الديون في البرازيل إلى طور متدهور بسبب ضغط الدائنين على الحكومة لإعادة الهيكلة وتنفيذ سياساتها المالية لضمان عائد مالي يسدد على الأقل فوائد الديون ويسمح بسياسة اقتصادية تقفشية يديرها الدائن الأمريكي لتضمن حقوقهم المالية، وكان لا بد من منفذ لسياساتها المتشددة والموجهة ضد الإنسان الفقير، وحدث أن اختير «كاردوسو» وزيراً للمالية لوجود حالة من الرضى عنه في وسط الشارع البرازيلي، وشعرت دوائر الدائنين بالتخوف من تاريخه النضالي ضد الرأسمالية المتطرفة، ولكن سرعان ما اطمأنت عندما قال في اجتماع مع كبار المصرفيين والصناعيين: «انسوا كل ما كتبته».
كما أن هناك شروطاً أو خصائص أخرى يجب توافرها عند المثقف، وهي شروط أجزلها نيتشه على (الرجل العلمي)، بالإمكان توافقها هنا إلى درجة كبيرة، حيث يرى نيتشه في الرجل العلمي أنه الإنسان العادي ذو الفضائل العادية بمعنى أنه نوع من الرجال غير مسيطر، غير آمر، ونوع من الرجال غير المكتفين ذاتياً. أنه يتمتع بالحسد التافه. وهو حاد البصر بالنسبة إلى نقاط الضعف لدى ذوي الأمزجة التي لا يستطيع بلوغ سموها.
الأمر الذي يعني هنا أن هذا القول يكشف عن عمق فلسفي في تعريف المثقف، سلاحه السخرية ونقص التصورات الممجدة لرجل الفكر.
خطورة دور المثقف
عن خطورة دور المثقف يتحدث الفيلسوف غرامشي عن المثقفين الإيطاليين عام 1919 فيقول لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة والسطحية والآنية للمشاعر والأهواء. بل صار لزاماً عليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبان ومنظم مقنع دائماً، لأنه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاماً عليه أن يتغلب على التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية – العمل) إلى (التقنية العلم) وإلى النظرة التاريخية الإنسانية، وألا يبقى اختصاصاً من دون أن يصبح – قائداً – أي رجل سياسية بالإضافة إلى كونه اختصاصياً. بالتأكيد لن يكون جيش المثقفين كلهم قادة أو سياسيون، لكن بالضرورة أن يعي المثقف دوره في مسيرة المجتمع، وأن يثقف أبناء المجتمع في معظم أمور حياتهم.
المثقف إذاً هو منتج للإبداع وذو موقف.
وخلاصة القول: إن ليس كل متعلم مثقفاً، ولا كل منتج للثقافة مثقفاً.