ثقافة وفن

هل انتهت الحرب الباردة الثقافية؟

| د. خلف الجراد

في الرابع عشر من نيسان 2007، نشرت «وكالة المخابرات المركزية الأميركية» (CIA) على موقعها الإلكتروني عرضاً موسّعاً لكتاب الباحثة والكاتبة البريطانية ومخرجة الأفلام التسجيلية فرانسيس ستونر سوندرز (الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأميركية وعالم الفنون والآداب)، الصادر في نيويورك عام 2000، وهو يوثق بدقة شديدة العلاقة بين «وكالة المخابرات المركزية» الأميركية وعشرات المؤسسات الثقافية الشهيرة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. حيث أوكل إلى هذه المنظمة الاستخباراتية – إلى جانب أعمالها التجسسية والتخريبية- تولي الجانب الثقافي في الحرب الباردة. وكان أول أعمال «السي أي إيه» تكوين واجهات وقنوات وأذرع ثقافية تعمل من خلالها «لتحصين العالم ضد وباء الشيوعية، ومن أجل تمهيد الطريق أمام مصالح السياسية الأميركية في الخارج»، فأنشئ «الكونسورتيوم» (الاتحاد) الذي ضمّ مجموعة من الراديكاليين ممن فقدوا إيمانهم بالشيوعية والثورات الاجتماعية التحررية، وأصيبوا بالإحباط واليأس من إمكانية الانتصار (السريع) على الامبريالية والرأسمالية والفكر اليميني المحافظ. وتتلخص مهمتهم الجديدة المرسومة من «المخابرات المركزية الأميركية» بأن يقوم هؤلاء أنفسهم بنقد المبادئ والممارسات السياسية للشيوعية والماركسية، من خلال مختلف الوسائل: كتابة المقالات أو إلقاء المحاضرات أو إنتاج الروايات الأدبية والأعمال المسرحية، أو إجراء البحوث والدراسات الموجهة للتشكيك بمجمل التراث الفكري والأخلاقي والنضالي الشيوعي والاشتراكي ومستقبل هذه القيم بشكل عام. وطلبت « السي أي إيه» من هؤلاء «التائبين» أن يركزوا في كتاباتهم على الدوافع التي جعلتهم يعتنقون الماركسية والشيوعية والاشتراكية، وما الذي جعلهم يغادرونها ويديرون ظهورهم لها. والهدف من وراء ذلك أن تتم محاربة الفكر الماركسي والأيديولوجيا الشيوعية من خلال شيوعيين «انشقوا» على هذه المبادئ والقيم اليسارية… الأمر الذي سيجعل خطابهم أكثر إقناعاً من خطاب عناصر مؤمنة بالرأسمالية والليبرالية وحرية السوق والديمقراطية الغربية وغير ذلك.
وتنفيذاً لهذه الإستراتيجية بعيدة المدى قام الأميركيون بافتتاح المراكز الثقافية في مختلف بلدان العالم، لتقديم الثقافة الأميركية، من خلال عروض السينما وحفلات الموسيقا والمعارض الفنية والمحاضرات العامة، وإرسال فرق موسيقية من زنوج أميركا لتغيير المفهوم الشائع عن العنصرية الأميركية. وفي هذا الإطار تقرر أن تستخدم وكالة المخابرات الأميركية الأنشطة النفسية السرية بشكل متقن لا تظهر معه أي بصمات واضحة للحكومة الأميركية وأجهزتها المختصة. وبغية إعطاء هذه المؤسسة حرية الحركة اللازمة صدرت قوانين تشريعية وتعليمات تنفيذية تقضي بحق «الوكالة» في إنفاق الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة الثقافية والدعائية والإعلامية من دون تقديم بيانات عن أوجه الصرف حتى لا يترك مستند يدل على دور الدولة والحكومة.
وأعدت المخابرات المركزية الأميركية قوافل من الموسيقيين في جولات مستمرة ومتزامنة لتقديم «الذوق الأميركي»، وإعادة عرض التراث الموسيقي العالمي بوجهة نظر أميركية. وشكلت المخابرات الأميركية «اللجنة القومية من أجل أوروبا الحرة» لاستخدام المهارات المتنوعة لليهود الشرقيين في المنفى من أجل تطوير برامج تتصدى بحيوية ومهارة للاتحاد السوفييتي، وتعمل على تشويه سمعته في العالم، وكان من أعضائها شخصيات بارزة في مجالات متنوعة، منها على سبيل المثال المخرج السينمائي سيسيل دي ميل وداريل زانوك، والجنرال أيزنهاور (الرئيس الأميركي لاحقاً)، والممثل رونالد ريغان (الرئيس الأميركي في الثمانينيات).
ولإحكام الحصار على الشيوعية والفكر الماركسي واليسار في الولايات المتحدة الأميركية نفسها وفي العالم قامت «المخابرات المركزية الأميركية» بتأسيس منظمة ثقافية جديدة باسم «كونغرس الحرية الثقافية» تحولت لاحقاً إلى «الاتحاد الدولي للحرية الثقافية». وقامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة اختيرت بعناية فائقة، وأصدرت أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير في مختلف المجالات.
ومن خلال « منظمة الحرية الثقافية» نجحت « وكالة المخابرات المركزية الأميركية» بإقامة واجهات فكرية وإعلامية وفنية كثيرة بغرض مواجهة الأيديولوجيا الشيوعية والفكر الماركسي والقيم الإنسانية الاشتراكية، والعمل على غرس ما يسمى «قيم الديمقراطية الليبرالية» والحرية الفردية المنفلتة من أي قيود أو حدود أخلاقية أو دينية أو اجتماعية.
وفي هذا الإطار صدر بدعم مباشر من «السي أي إيه» عدد من المجلات والدوريات التي نالت شهرة عالمية، مثل: «كومنتري» و«نيوليدر» و«بارتيزان ريفيو» و«العلم والحرية» ومجلة «أنكاونتر» استكتبت فيها أسماء لامعة ومشهورة، مثل المؤرخ أرنولد توينبي والفيلسوف برتراند راسل وهربرت سبنسر، وكلها مجلات ضد الفكر الشيوعي والماركسية والاشتراكية.
وكذلك كانت «السي أي إيه» وراء إصدار عدد من المجلات الثقافية خارج أميركا، الهادفة لتشويه الشيوعية والنظام السوفييتي، وفي مقدمتها «سوفييت سيرفي» التي ترأس تحريرها «وولتر لاكير»، و«تيمبو برزنت» بإيطاليا، و«كوادرات» في أستراليا و«كويست» في الهند. وتم الاستعانة «بمؤسسة فورد» لتنفيذ عشرات المشروعات المشتركة، وكذلك «بمؤسسة روكفلر» التي كان هنري كيسنجر أحد مستشاريها وخبرائها الأساسيين.
كتاب «الحرب الباردة الثقافية» يؤكد بالأدلة الدقيقة والوقائع الموثقة أن الضجيج الإعلامي الهائل حول الإنتاج الفكري والأدبي والفني لعدد من الأسماء، وحتى الجوائز العالمية الكبرى الممنوحة للبعض، لم تكن بريئة أو بعيدة عن «وكالة المخابرات المركزية الأميركية» وأذرعها وأدواتها المختلفة في العالم شرقه وغربه على حد سواء.. والقصة مستمرة في هذا المجال، رغم ما يقال عن انتهاء «الحرب الباردة» والاتجاه لإقامة «نظام عالمي جديد» عابر للأيديولوجيات والصراعات والحروب الكونية والإقليمية وغيرها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن