ثقافة وفن

عبد الباسط الصوفي وديمومة الحضور … اختار الانتحار قبل أن يعرف بجائزته

| أحمد محمد السح

(توهّجت أكوابنا
فاقفزْ، إلينا، يا قمرْ!
فجّرت هذا الليل ينبوعيْ:
ضياءٍ، وصورْ)

غابت السنوات، وظلت هذه الأبيات ترنّ في أذهان من عاش هذه الأبيات وله ذائقةٌ في عشق القرية وتيهِ الشعر، وشخصياً حفظت اسم هذا الشاعر وبحثت عنه، عن كتابه، فلم أجده إلى أن ناداني هذا الكتاب منذ خمس سنوات، وقد كان متربعاً على عرش بسطةٍ تبيع الكتب، ناداني فاستجبت، وبدأت القراءة، والبحث، وقد كنت عرفت ككل من اهتموا أن الصوفيّ عاش ٢٩ عاماً، وأنهاها بالانتحار، ومن هذا الكتاب عرفت أن ديوانه الوحيد أبيات ريفية قد نال جائزة دار الآداب عام ١٩٦٠، من بين ٢٢ مجموعة شعرية تنافست على نيل الجائزة، وعلى هذا يكون عام الانتحار هو نفسه عام نيل الجائزة، الصوفي لم يعرف الجائزة حيث انتحر في مدينة لابي في غينيا قبلها، ولكن هل منح الجائزة لكونه انتحر!!؟؟ لا أعرف، إنما هذا مستبعد، ومستبعدٌ جداً كذلك.
من خلال ٣٩ قصيدة، وديوان واحد عاش الصوفي، وتبين أنه مثار اهتمام المختصين والمشتغلين بالأدب، حتى إنه لو كان للشعر حضوره الانتشاري، لكانت نصوصه وصلت إلى القراء والمستمعين، لا بل لو أن ثمة جيلاً مثقفاً من المطربين، لصلحت عدة قصائد منها للغناء دون الحاجة إلى استبدال حرفٍ واحدٍ فيها. وعلى هذا لن تعجز على الإطلاق في إيجاد الأبحاث والدراسات التي تحفل بديوان الصوفي، اليتيم، بين قديم وحديث، فتعتبر دراسة د.إبراهيم الكيلاني، ممدوح السكاف، ووفيق خنسة، ود. إسماعيل مروة، وكثير غيرها، تجد البحث في هذا العمل متعة لأنك لا تطوي دفتي كتاب الصوفي وأنت يساورك شيء من الندم لهذه القراءة، فالصوفي عذب وتأسيسي، يستفاد منه في لفت النظر إلى براعة العبارة وقوة الجرس الموسيقي. هذا الجرس الذي دافع عنه بشراسةٍ واقفاً مع حزب المنتقدين لقصيدة نزار قباني( خبز وحشيش وقمر) معتبراً دعاة التجديد في الأوزان الخليلية « فقدوا الأصالة »، لكنه اكتشف أنه تيار جارف في الشعر فكتب فيه، والمفارقة أن جيلنا تعرف عليه شاعراً أنموذجاً لقصيدة التفعيلة، أو ماعرف وقتها الشعر الحر.
بدأ الصوفي شاعراً رومانسياً لا بل إن له قصائد اعتبرت نموذجية في المذهب الرومانسي منها قصيدته «دنيا تغني» و«مصفاة الروح» وغيرها، وفي هذه المرحلة عاش عبد الباسط مرحلة التقليد لشعراء رمزيين كعمر أبو ريشة، ووصفي القرنفلي وغيرهم، وبعدها انتقل إلى أدواته لا بل كان له فلسفاته الرمزية في الموت، وما يليه بل سبق على إيليا أبو ماضي بهذه النظرة فله في هذا قول:

في سكون الليل أمضي في طريقي يا فناء
إن مضى سحر ربيعي فلقد يأتي شتاء
وأختم الأضلاع حرّى وما، فيّ رجاءُ

والواقع أن الموت عند الصوفي هو حالة فنية موحية سخية الإلهام شأنه شأن أبناء جيله، لكنه نفسه حين انتقل إلى مرحلة سميت الواقعية الجديدة نظراً لميوله الفكرية الاشتراكية فقد ساهم في نقل سيرة التاريخ للمرحلة التي عاش فصار جزءاً من حركة التاريخ، هذه الحركة التي يعبر عنها في ست قصائد يفتتح ديوانه فيها إلى جميلة بو حيرد، ويقف إلى جانب مظالم إفريقية في قصائده «طبول، ومكادي» استخدم فيها لحنيته المميزة التي اكتسبها من الرومانسيين، فطوعها في نصوصه الواقعية والتي تشغل حيزاً واسعاً في ديوانه، ولكن هذه النصوص حكماً ليست هي التي جعلت من عبد الباسط الصوفي فهي ليست إلا جزءاً من حركة التاريح، كما ذكرت سابقاً، وهي تنتهي بحكمها الانتشاري والجماهيري بانتهاء الحدث، ويبقى منها دور واحد فقط هو الدور الإخباري الإذاعي، وهنا يحق لنا التساؤل هل الجذر الفكري الذي انعكست منه هذه النصوص لعب دوراً في غربته عن عائلته، التي تعيش حالتها الدينية، لتجد ابنها شاعراً، يهيم في كل واد، وتحديداً الوادي الاشتراكي، المحظور وقتها، فالتحليل في انتحار الصوفي الذي شغل بعض الباحثين، لا أجد له أهمية قصوى، وأسقطه من الحسبان حين يكون بقراءة شعرية تعني، أن تأثر الصوفي بتيار شعراء غربيين وجوديين كألبير كامو، وغيره وهم من رأوا في إنهاء الحياة خلاصاً، فيكون هذا السبب وراء الانتحار، الصوفي انتحاره يكون لسبب شخصي لا بل مغرق في الشخصية وهو ليس ذا نفحة رفضية قيمية كانتحار خليل حاوي، فابن العائلة الذي لم يجد في نجاحه منفذاً إليها، عاد من لابي في غينيا، وقد أنهى حياته بالشنق، ربما أرادها صرخة مدوية، ولكن عذوبة شعره ومجموعة الأدوات الاحترافية أضف إلى ذلك الماكينة الإشتراكية وقتها التي عززت من حضور قضية انتحاره وجائزة دار الآداب، كلها جعلته يجلس مذكوراً بين شعراء الحداثة، في حين عشرات الكتب لشعراء آخرين لم تحمهم من مقصلة النسيان، وأما عن كتابه فلكم أتمنى عودته للحضور من دار الآداب نفسها أو من وزارة الثقافة ليكون مثار مزيد من القراءة والنقد، فلا ضير أن نفتخر بأننا أمة احتضنت شاعراً عاش ٣٩ قصيدة في كتاب واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن