رسائل قصيرة جداً
سيلفا رزوق:
أذكر ويذكر الكثيرون معي ومن سنين طويلة خلت كيف كانت الرسائل بشكلها وخطوط أصحابها وألوانها وحروفها المنثورة على العديد من السطور والصفحات تأخذ دوراً وأهمية وحضوراً يمتزج فيه الخبر بالحنين والذكريات وحتى الأماني.
لقد كانت الرسائل أو «المكاتيب» كما يحلو للبعض تسميتها أشبه بضيف محبب ولطيف يدخل البيوت والأماكن حاملاً معه تلك البشرى والبهجة وفي أحيان أخرى أنباءً عن حزن هنا أو إخفاق هناك، لكن هذا التناقض لم يفقد تلك الرسائل أهميتها أو يقلل من سحرها ونكهتها الخاصة وربما خير مثال لهذا المعنى هو ذلك الفيلم الساحر الذي يحمل عنوان (البوسطجي) للنجم الراحل شكري سرحان.
هذا الفيلم الذي يشبه الوثيقة المصورة لزمن جميل مضى وذهب بعيداً قُدّم برؤية إخراجية تضج بالحياة رغم قسوة الواقع ومرارته وأرسل عشرات العشرات من الرسائل وإن من غير عناوين محددة.
كثيرة هي الأشياء التي مضت.. ذهبت أيضاً وربما بسرعة غير متوقعة وهو ما دفع شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم الكثير من التفاصيل والحكايات وأشياء أخرى إلى التلاشي والغياب.. وكأنها ليست من تلك المنازل والأزقة والحارات!
مع مرور الوقت والأيام تقلصت تلك الرسائل سطراً وراء سطر ورسالة تلو أخرى.. وتحولت إلى ذكرى أو خيال وفي أحسن الأحوال إلى واحة للتندر يسوقه جيلٌ لم تعد تعنيه هذه الدروب «المملة» والمقفرة!
اقتحمت الرسائل الإلكترونية أو الإيميلات ورسائل الجوالات حياة الناس من دون أي استئذان أو سابق إنذار.. كأنه انقلاب أبيض تحت جنح ليل حالك السواد!
إذاً، لم يبق من تلك الرسائل الطويلة إلا اسمها وبعض من حنين على أبعد تقدير.. وتسيّدت الرسائل القصيرة المشهد.. ربما لأنه لم يعد هناك الكثير من الوقت للكتابة والكلام.. وربما لأن الوجوه باتت تخفي خلفها الكثير من الخفايا والتفاصيل والغربة والعزلة.. ربما وربما وربما.
للمستقبل والحاضر رسائل وللماضي أيضاً.. للشمس والقمر رسائل وللريح والأعاصير رسائل.. للبحار والأنهار.. للأشجار والجبال.. للحياة والموت رسائلها الخاصة.. للأوطان والتاريخ رسائل.. وللآباء والأمهات رسائل أيضاً… للصوت رسائل وللصمت كذلك.
كل هذا الكم الهائل من الرسائل لم ولن يتوقف وكذلك لم ولن يتبدل أو يتحول إلى رسائل طويلة أو قصيرة.. بل بقيت على حالها وكأنها عصية على التغيير!
رسائل قصيرة جداً.. لكنها بقيت وستبقى عصيةً على الضياع والاختراق والتغيير!