الإخلاص للغة من مظاهر الحضارة…محمود السيد يشرح علاقة اللغة العربية بالاستثمار الاقتصادي والتنمية
عامر فؤاد عامر:
ألقى الدكتور محمود السيد محاضرته التي حملت عنوان «الاستثمار في اللغة العربية ثروة قومية في عالم المعرفة» وذلك ظهر يوم الأربعاء الموافق لـ27 أيار 2015 في قاعة المحاضرات في مجمع اللغة العربية، أشار فيها إلى أهمية اللغة وقيمتها الاقتصادية من جهة، وعلى مجالات الاستثمار فيها من جهة أخرى، لأن هذا الاستثمار رافد أساسي ومهم في عملية التنمية المستدامة.
ومما أشار إليه د. «محمود السيد» في أهمية اللغة: «… اللغة ليست فقط وسيلة للتخاطب والتواصل بين الجماعات والأفراد، وبين المرء وذاته، بل هي رمز للهويّة التي تميّز شعباً عن شعب، وتطبع حضارته ودرجة حضوره في مسرح الوجود والحياة، وصولاً إلى الاستدلال على ما في أعماق النفس وتصورات الذهن… ». كما بين أن أهمية اللغة اقتصادياً تكمن في دورين أولهما: « عندما يُنظر إليها على أنها أداة في الاقتصاد وفي عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول والأمم، إذ يعدّ استعمال اللغة بمردود جيد وكفاية عالية أساساً لتحقيق النمو الاقتصادي وضرورياً في عملية التنمية». وثاني دور لها: «عندما يُنظر إليها على أنها صناعة وسلعة في القطاع الاقتصادي، إذ تزايد دور الصناعات الثقافيّة وقاعدتها اللغة الوطنيّة في الاقتصاد العالمي مؤخراً تزايداً كبيراً جداً». وفي دراسةٍ ذكرها د. «السيد» أجراها البنك الدولي ضمّت عيّنتها أكثر من ستين دولة وبالإضافة لأكثر من ستين ألف جهة مختلفة، خلصت إلى أن حاجة الدول النامية إلى تحقيق النمو الاقتصادي تكمن في رفع مستوى المعرفة لأفراد المجتمع لا في مساعدات إنسانية، وهذا ما لا يتمّ الحصول عليه إلا من خلال اللغة الأم.
وقد بين أيضاً في جانب آخر من محاضرته، أن للأمة رصيداً أو ثروة نقديّة، ولها أيضاً رصيد أو ثروة لغويّة، وكلّ من العملة واللغة تصك، ويعتنى بتنظيم صكها، ولا تترك من دون تحكم ومتابعة من الدولة، وتأتي قيمة النقد وكذلك قيمة اللغة من تداولها، فإذا أهملت الدولة التداول بعملتها أو بلغتها (التعليم بغير اللغة الوطنية) فإن لهذا آثاراً اقتصادية هائلة.
وعن المجالات الاقتصادية للغة قال د. «محمود السيد» إنها تتجلي في:
1- المجال الاتصالي للغة كما تعبر عنه القدرة السكانية (الديموغرافية) للجماعة التي تستعملها بوصفها (أ) لغة أولى و(ب) لغة ثانية أجنبية.
2- مستوى تطور الإمكان الوظيفي للغة باعتبارها أداة إنتاج مجتمعية ومستوى الفرص المتعلقة باستخدامها.
3- الطلب عليها بوصفها سلعة في السوق الدولية للغات الأجنبية، وحجم الصناعة التي تمده، والحصص المخصصة من النواتج القومية الإجمالية التي تنفق على الصعيد العالمي لاكتسابها.
4- رصيد الحساب الجاري للغة بالنسبة لجماعتها اللغوية.
5- المقدار الكلي للاستثمار الموضوع في اللغة حيث يمكن للتدوين المعجمي وكثافة شبكة المعاجم ثنائية اللغة التي تربط اللغة باللغات الأخرى، والترجمة من اللغة وإليها، ومستوى إمكان المعالجة الالكترونية، أن يستخدم ذلك كله مؤشرات جزئية.
وعن الاستثمار في اللغة العربية حملت المحاضرة نقاطاً مهمّة بينها المُحاضر من خلال: « وإذا وقفنا على توجيه رأس المال نحو الاستثمار في معالجة اللغة العربية فإننا نتوقع عائداً كبيراً للمستثمر نفسه وللغة أيضاً، وذلك للأسباب التالية:
1- قابلية هذه الاستثمارات للنمو نظراً لاتساع سوق اللغة العربية في المنطقة العربية، وتزايد الطلب على برامج المعالجة اللغوية.
2- تفاعل الثقافة العربية والإسلامية مع ثقافات العالم المختلفة عبر الشابكة (الإنترنت)، وتنامي رغبة المستخدم العربي في إثبات ذاته من خلال لغته العالمية، وإقبال غير العرب على برامج تعلمها.
3- مرونة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب التقنيات المختلفة لتعدد خصائصها وتفردها، مما يجعلها حقلاً خصباً للدراسات التنظيرية اللغوية بصفة عامة، وهو ما يضمن رواجاً لها في حركة البيع والشراء عند الطلب وتنامياً في وسائل العرض. أما مجالات الاستثمار في اللغة العربية فيمكن أن نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر متمثلاً في:
1- تصنيف المعاجم للاستعمال العام.
2- تصنيف معاجم المصطلحات في مجالات محددة.
3- برامج معالجة النصوص.
4- الترجمة الآلية.
5- الذكاء الصناعي، وبخاصة إنشاء نظم المعلومات وبنوك المعلومات.
6- تحسين الاتصال بين الإنسان والآلة أي تطويع لغات الحاسوب للغة العربية».
وفي موضوع المعاجم اللغويّة يشير: « يتطلب إعداد المعاجم استثمارات أكثر ضخامة من معظم الكتب، ولكنها تعد بدخل أكبر وأكثر بقاء، وتساعد المعاجم على التوحيد اللغوي، ذلك لأن معاجم اللغة الواحدة تجسد مفردات اللغة وتحولها إلى ملك مادي محتمل لكل عضو في الجماعة اللغوية. ويعد قاموس أوكسفورد معجماً تاريخياً فريداً للغة الإنجليزية، ولن يكون عملاً خاسراً للناشر على المدى البعيد على الرغم من التكلفة الضخمة التي أنفقت عليه، وهو إغناء كبير للغة الإنجليزية وزيادة مستمرة لقيمتها وتطويرها بوصفها أداة إنتاج». أمّا في موضوع الترجمة: «الترجمة يجب أن تفهم باعتبارها استثماراً طويل الأمد من أجل الحفاظ على قيمتها أو زيادتها، ولما كانت كل ترجمة إلى لغة تضيف قيمة إليها فإنه يمكن النظر إلى مجمل كل الترجمات إلى لغة ما باعتباره مؤشراً آخر إلى قيمتها. وإن حركة الترجمة إلى لغة ما تكشف عن مقدار العمل النوعي الذي يمكن لمجتمع أن يخصصه لهذا النوع من المهن». وفي مجال تعلّم اللغات الأجنبية: «تكشف الطبيعة السلعية للغات عن نفسها بشكل أوضح في مجال تعلم اللغة الأجنبية وتدريسها الذي يمكن وصفه باعتباره سوقاً. وهنا يمكن التمييز بين سوق محلية وسوق إقليمية وسوق وطنية وسوق عالمية».
من جانبٍ آخر تحدّث د. محمود السيّد عن اللغة الأمّ وأهميتها في نقاط مفصلّة حول تصديرها واستيراد لغة الآخر، وتماشيها مع لغة التطور التقنيّة: «أن العجز عن تصدير اللغة القومية يجرّ حتماً إلى استيراد لغة الآخر، إذا توافرت للغة جملة من الشروط المحددة والعوامل المساعدة وكانت تتميز بالقابلية الذاتية للتسويق، فيمكن أن تكون مجال استثمار مؤكد وسلعة للتداول مضمونة الربح والكسب، ما يدعم قيمتها باعتبارها من أسس الهوية القومية. ولكي تقوم العربية بوظيفتها بنجاح لابد من تطوير اللسانيات الحاسوبية العربية ومنجزاتها لتيسير نشر المعرفة التقنية في مجال اجتماعي متسع ولضمان النجاح في هذه الخطوة لابد من دعم التواصل والتعاون مع مستعملي اللغات الأجنبية التي ترسم بالخط العربي مثل الفارسية، وكذلك فتح باب التواصل مع المجتمعات التي تسهّل العربية من غير العرب لانتمائها للدين الإسلامي ضماناً لسعة السوق ودعماً لعملية الترويج والمبادلة. ولتسهيل تعلم اللغة العربية في المجالين العلمي والتقني كان لابد من إحداث مواقع تعليم إلكترونية على الشابكة لأن من شأن ذلك أن ييسر نشر اللغة ويضمن حسن تلقيها».
وفي إشارة مهمّة للكاتب المصري «بهاء الدين» في مقالته التي حملت عنوان «المثقفون والسلطة في العالم العربي» والتي استشهد بها د. محمود السيد»: «إنّ اللغة العربية هي ثروة قومية حقيقية مثلها في ذلك مثل البترول والصناعة والزراعة وقناة السويس وغيرها من الثروات الطبيعية، ويمكن استثمارها حضارياً وسياسياً والانتفاع بها على أنها مورد اقتصادي كبير، ويمكن استثمارها تماماً مثلما نستثمر الإنتاج الصناعي والزراعي وكل ما نملكه من الموارد الاقتصادية الأخرى التي تعتمد عليها الثروة القومية. ويؤيد الكاتب الدعوة إلى فكرته قائلاً: «كان من حظي أنني زرت كثيراً من البلدان الإفريقية، وعرفت فيها من الزعماء والكبار والحكام إلى باعة الفاكهة في الأسواق الفقيرة، ووصلت إلى (تمبوكتو) في مالي، وقد عرفت معرفة شخصية الأشواق الهائلة لدى هذه الشعوب إلى اللغة العربية وإلى العروبة، وإلى معرفة لغة دينهم، كنت أسير في الأسواق فإذا عرف العامة أنني عربي قادم من مدينة الجامع الأزهر، أحاطوا بي لاحفاوة فقط، بل تبركاً، يمسحون ثيابي، ثم يمسحون وجوههم، فاللغة العربية لأنها لغة دينهم هي عندهم مقدسة، ومن يتكلمها كأنه من الأولياء الصالحين الذين يتبركون بهم. كنت أحياناً أهرب من الأسواق حين أشعر أن الرجال والنساء البسطاء يعاملونني وكأنني (ضريح متنقل) لا ينقصهم إلا أن يربطوا في عنقي وأطرافي أحجيتهم وأدعيتهم».
وتعليقاً على ما ذكره الكاتب «بهاء الدين» يعلق السيد: « أن مدينة (تمبوكتو) التي ذكرها الكاتب كانت عاصمة من عواصم الثقافة العربية الإسلامية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولكنها فقدت هذا الدور الثقافي بفعل الاستعمار الثقافي الذي عمل على إبعاد اللغة العربية بفعل الاستعمار اللغوي وفرض لغته على سكان البلاد».
وينتهي د. «محمود السيد» في الخلاصة إلى: «والخلاصة تتمثل في أن عملية التنمية لا تجري إلا بالتنمية البشرية المستدامة، وهذه لا تتحقق إلا بالاستثمار الصحيح في الإنسان وخاصة معرفته، وأن اللغة هي وعاء المعرفة ولاسيما معرفته العلمية والتقانية، وأن دور اللغة العلمية والتقانية في تحسين مردود القوى العاملة أي باللغة الأم يتعاظم بدرجة كبيرة مع التوجه نحو الاقتصاد المبني على المعرفة.
وأن النهوض باللغة العربية يرتبط- شئنا أم أبينا- بتقدم حالة الاقتصاد، وهذا يتطلب:
1- أن يغار رجال الأعمال العرب على لغتهم إذ من الخزي والعار أن تقوم بعض الدول الآسيوية الصغيرة بتصدير الدمى وفوانيس رمضان التي تنطق باللغة العربية، في الوقت الذي يكتفي فيه العرب بالطرب لها.
2- أن تعي الحكومات العربية أن الاهتمام باللغة العربية هو من أولويات مسؤولياتها، أو على الأقل أن تعطيها من الرعاية والاهتمام ما تعطيه للأمور الترفيهية.
3- أن يعي الشعب العربي نفسه أن مستقبل الأجيال العربية رهن برعاية اللغة والنهوض بها، وأن عبء النهوض لا يلقى على كاهل جهة واحدة، وإنما هو مسؤولية جماعية.
4- أن يعي جميع أبناء الأمة أن الإخلاص للغة مظهر حضاري لا يمكن أن توصف به أمة لا تحترم لغتها، ولا يبذل أفرادها كل ما في وسعهم من أجل النهوض بها، وهو نهوض ينعكس على حاضرهم ومستقبل أبنائهم.
وفي ختام محاضرته كانت هذه الأبيات التي قالها وهي من قصيدة للشاعر بدوي الجبل:
والدهرُ ملك العبقرية وحدها
لا ملك جبّارٍ ولا سفّاح
والكون في أسراره وكنوزه
للفكر لا لوغىً ولا لسلاح
لا تصلح الدنيا ويصلح أمرها
إلا بفكرٍ كالشعاع صُراحِ