قضايا وآراء

انتخابات مجلس الشعب في سورية… مالها وما عليها؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

في طرح الآراء، لاكتشاف السلبيات واشتراع الحلول على المستوى السياسي، علينا أن نميز بينَ نوعينِ من الحياد؛ «الحياد الحزبي» و«الحياد الوطني».
مبدئياً، لايوجد شيءٌ اسمه «حيادٌ وطني»، هذا النوع من الحياد هو أقذر أنواع التلون والجلوس في القمة حتى رؤية الكفة لمَن تميل، عندما يكون وطنك في حالة حربٍ فإن الصمت هو سكوتٌ عن الباطل، وليس التلكؤ عن مناصرة الحق. أما «الحياد الحزبي» فهو أمرٌ صحي، فأنا كمواطن لست مضطراً أن أرى العروبة فقط من خلال المنطلقات النظرية لـ«حزب البعث»، وبذات الوقت أستطيع أن أعتز بالحضارة السورية بمعزلٍ عن الفلسفة القومية التي أنشأها «أنطون سعادة». الحياد الحزبي يسمح لمتبنيه بفضاءٍ أرحب للتعبير، ومساحةٍ أوسع للرؤية، لأنه أكثر سموّاً حتى من فكرة «المستقل»، فالمستقل بالنهاية قد يحمل طموحاً سياسياً يحاول من خلاله الضرب على سلبيات الآخرين لتعويم فكرته، أما المحايد فهو لا يملك إلا الفكر الذي يرغب بتقديمه للجميع، بمعزلٍ عن «لوثة السياسة» والعمل بها.
تُفتتح اليوم في المحافظات السورية صناديق الاقتراع لانتخابات مجلس الشعب، لعل هذه الانتخابات هي أكثر الاستحقاقات التي أثارت العديدَ من التساؤلات في سنواتِ الحرب الماضية، بعضها تساؤلاتٌ منطقية، وبعضها الآخر تساؤلاتٌ قد لا تستحق الوقوف عندها، لكن لا مانع أن نمرَّ عليها، كأن يسأل أحدهم مثلاً وماذا ستفيدنا هذه الانتخابات ولماذا لم يتم تأجيلها؟
إن الإصرار على إجراء الانتخابات هو حكماً أمرٌ صحيح، نحن هنا لا نتكلم عن مباراة كرة قدم يمكن تأجيلها، نحن نتكلم عن استحقاقٍ دستوري يتمثل بانتخاب ممثلي الشعب للسلطة التشريعية، وهذا الأمر أساسي في استمرارية تكوين الدولة، حتى من طرح فكرة إصدار قانون يمنح التمديد لمجلس الشعب الحالي بذريعة انتظار ما ستؤول إليه محادثات جنيف، فإن طرحه قاصرٌ، لأنه لم يع أولاً أن الرئيس الأسد لا يتعاطى إلا كرجل دولةٍ، بعيداً عن الصلاحيات الاستثنائية الدستورية التي تتيح تمديد ولاية المجلس بموجب قانونٍ في حال الحرب، النقطة الثانية أن انتظار ما ستسفر عنه مفاوضات جنيف هو نومٌ في العسل، ببساطةٍ فقد تطول المفاوضات أعواماً، فهل نبقي على ذات المجلس؟
لكن حتى من يقفون إلى جانب الاستحقاقات الدستورية، كان الانقسام بينهم واضحاً، لم تُخفِ الوجوه حالات الانقسام؛ بين من يدعو للمشاركة وبين من يقول إنه مع الاستحقاق الدستوري لكن مشاركته لن تبدل بالأمرِ شيئاً. في الواقع كلا الطرفين لم يستطع الترويج لفكرته بالطريقة السليمة، فالذي يدعو «للمشاركة في الانتخابات» لم يستطع أن يروِّج لها بطريقةٍ جديدة، وتناسى- أو أنه اعتقد أن من يتابع استطلاعاته نسي- أن المواطن المدعو للمشاركة هو ذاته المواطن الذي يعيش حالة الحرب والحصار منذ خمس سنواتٍ، إلا إن كانوا يأتون باستطلاعاتهم التلفزيونية «البدائية» بأناسٍ من المريخ. القصور الإعلامي لشرح أهمية الاستحقاق الدستوري وصل حتى للفشل في توضيح الفرق بين الحقوق والواجبات؛ من الخطأ بالمناسبة القول إن المشاركة في الانتخاب ـ واجبٌ ـ هذه بدعةٌ، فالواجب بالنهاية التزام، وهذا الأمر لا إِلزَام فيه. الأدق أن المشاركة في الانتخابات مسألةٌ تخضع للحرية الشخصية للفرد، بعيداً عن مصطلحات «عرسٍ وطني» و«حلقات الدبكة» و«الخطب المُملة»، والإسهاب في شرح معاني بعض الكلمات الواردة في النشيد الوطني السوري!!
أما الطرف اليائس من إحداث أي تبديلٍ أو تغييرٍ في تفعيل دور مجلس الشعب، فإن سلبيته هذه هي جزءٌ من السماح لمن ليسوا مؤَهلين للوصول لقبة البرلمان. هذه السلبية ليست مبررةٌ، فبدل أن تلعن الظلام أشعل شمعةً، الشمعة قد تكون صوتك، واجتماع تلك الشموع قد يأتي لنا بالنور، من يمثل هذا الطرف ربما هو ليس محباً للوطن وحسب، لكن قد يكون من عائلةٍ أو قريةٍ قدمت شهداء، ولكي نعطي هذا الطرف حقه علينا ألا نسهب في لومِه، لكن علينا أن نتساءل، من الذي أوصله لهذه الحالة؟ هل هو تكرار ذات الأسلوب في الترشيح والاختيار، أم تلك الحملات الانتخابية التي كانت كدكاكين للمتاجرة بكل ما هو مقدس في وطنٍ تعمَّد بدم الشهداء؟!
فيما يتعلق بالحملات الانتخابية فإن كثيراً من الأخطاء ارتكبت، كان على «اللجنة القضائية العليا للانتخابات» أن تتخذ قراراً حاسماً بمنع المرشحين من الترويج لأنفسهم عبر ارتداء البدلات العسكرية أولاً، أو عبر زياراتهم «البهلوانية» السابقة لحواجز الجيش أو لأسر الشهداء والجرحى ثانياً، كان علينا أن نتعاطى بحزمٍ مع أي محاولةٍ لاستثمار الزي العسكري المقدس في أي عملٍ سياسي، قد تصل لدرجة إلغاء ترشيح من يروج لنفسه بذلك، وهنا علينا أن نعترف طبعاً أن جلَّ من قاموا بهذه الأعمال هم «مستقلون»، لأن الآخرين كانوا ملتهين بالدبكة والخطب الخشبية.
النقطة الثانية ماذا عن «المال السياسي»؟ من الناحية القانونية، فإن كلمة «مال سياسي» لا تعني فقط منح المال «الكاش» مقابل التصويت، بل الأدق هو أي محاولةٍ للترغيب عبر العطايا، حتى لو كانت تلك العطايا ربطة خبزٍ!! فلماذا لم نتحرك بسرعةٍ لوقف مثل هذه التجاوزات، مع إن من قاموا بها معروفون بالاسم، وهم حكماً ليسوا من تلك اللوائح التي ضمنت فوزها؟ إن الحديث عن اللوائح التي «ضمنت فوزها» يقودنا هنا نحو القسم الأهم من هذه الجوجلة لهذا الاستحقاق الدستوري.
دائماً ما نعتبر أن «الجبهة الوطنية التقدمية» هي أكثر الأفكار التي تم ظُلمها في السنوات الأربعين الماضية. الجبهة «كفكرةٍ» هي من أرقى الأفكار السياسية التي تناسب تماماً مجتمعاً ذا تركيبةٍ اجتماعية تشابه المجتمع السوري، لكننا للأسف تركنا الجبهة منذ عقودٍ تماماً كما تم إنشاؤها منذ أكثر من أربعين عاماً، علماً أن آلية تطويرها واضحةٌ، والإيجابيات التي كنا سنجنيها من هذا التطوير بما فيها «التوسيع» ربما كانت كفيلةٌ بصون المجتمع السياسي السوري لعقودٍ قادمةٍ، تحديداً إننا إذا ما أخذنا روح الفكرة المتضمن (مجموعة أحزاب تتحالف مع بعضها انتخابياً لتشكيل كتلةٍ برلمانيةٍ وازنة)؛ فهي من صميم الممارسة الديمقراطية ومن صميم العمل السياسي، لكنها للأسف غرقت في التفاصيل الصغيرة التي أوصلتنا لمكانٍ فيهِ الكثير من الضبابية السياسية، لكن هل فات الأوان لذلك؟
لا يمكن أن نشعر أن الأوان فات إن امتلكنا الإرادة الحقيقية، والخطوات بسيطة جداً، فبمعزل عن توسيع الجبهة وتحديث خطابها بما يتوافق مع المتغيرات في سورية والمنطقة، لكن هناك ثغراتٌ تبدو للبعض غير مرئيةٍ، ولكن تلافيها مهمٌ بطبيعة الحال لخلق جو من التحديث في الخطاب السياسي، وهذا واضح من خلال الترشيحات، تحديداً إن هناك أموراً لاتبدو مفهومة فلماذا مثلاً لا تقوم أحزاب الجبهة بما فيها حزب البعث بتحديد عدد الولايات الانتخابية لمرشحيهم مثلاً؟ ثم ما الفكرة من تبني ترشيح عدد من «النقباء» لمنصب مجلس الشعب، فإذا كان هؤلاء النقباء يمارسون أساساً العمل النقابي، فما الفائدة من وجودهم في مجلس الشعب والجمع بين المهمتين؟ ثم كيف يعلن الموقع الرسمي لحزب البعث بأن (القيادة القطرية تشكّل لوائح الوحدة الوطنية)، هل هو خطأ مطبعي؟ لماذا لا نقول مثلاً: أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية تعلن لوائحها لانتخابات مجلس الشعب، أيهما أقرب للمنطق؟
ربما قد يطول الحديث كثيراً عن هذه الانتخابات، تحديداً إن البعض يتعامل معها كجائزة ترضيةٍ؛ والبعض تحدى أن يكون أحد أعضاء لوائح الوحدة الوطنية عليه نقطة سلبية واحدة- ربما مبالغةٌ غير مبررة- والبعض الآخر يراها من حقه لأنه «دافع عن وطنه إعلاميا»، كان علينا أن نشرح لهؤلاء أنه في جدلية الحقوق والواجبات فإن دفاعك عن وطنك هو الواجب، وعندما نتحدث عن واجبٍ فهذا يعني ألا تنتظر شيئاً من هذا الدفاع. من هنا نبدأ برفع المستوى الوطني للجميع بمن فيهم محازبون ومستقلون؛ مرشحين كانوا أم جبهويين، لأن ما ينتظرنا في المرحلة القادمة من معركةٍ سياسيةٍ ضروس يجب أن نجهِّز لها بشكلٍ أفضل، وعلى جميع المستويات بما فيها تلك التي ترى نفسها فوق الإصلاح. أما الانتخابات فهي إن تمت، فإننا فعلياً سنفتخر بأننا أنجزنا استحقاقاً دستورياً مهماً بمعزلٍ عن قناعاتنا بأن الواصلين للقبة البرلمانية هم حقاً ممثلون حقيقيون لهذا الشعب، وعليه فإن الكلمة الأخيرة لشعبنا السوري الصامد:
تستطيع أن تنتقد «في إطار المنطق والعقلانية» ما تشاء من لوائحٍ ومرشحين وأحزاب، لكن إياك أن تخلط بين النقد والدعوة للمقاطعة، شارك ولو بورقةٍ بيضاء، فسورية باقيةٌ بقوة شجعان هذا العصر، أما الباقي… فهم راحلون…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن