حلب – معركة الجائزة الكبرى
| عبد المنعم علي عيسى
ليست هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الجيش السوري عن إطلاق معركة تحرير حلب، تكرار المحاولة لم يكن نابعاً من خطأ في الحسابات العسكرية أو في حساب موازين القوى القائمة على الأرض أو نقص في الكفاءة العسكرية لدى القائمين بالفعل، وإنما يعود إلى معطيات غاية في التعقيد تبدأ بتلك الفسيفساء الواسعة الطيف الإثني أو العرقي أو المذهبي وتمر بحساسية قصوى تبديها أنقرة تجاه اقتراب العنصر الكردي من حدودها، الأمر الذي ترى فيه قيام جسر تواصل كردي- كردي على ضفتي الحدود الفاصلة بينها وبين السوريين يهدد الجغرافية التركية في العمق وهو ما ستعمل على منع حدوثه بكل ما تملك من وسائل متاحة لها بما فيها إمكانية التواصل مع دمشق، ولذا فإن العديد من التسريبات التي نقلتها وكالات عالمية مؤخراً عن وجود مسعى جزائري للتوسط بين دمشق وأنقرة لمواجهة احتمالات قيام كانتون كردي مستقل شبيه بذلك الذي قام في شمال العراق صيف العام 2003، يبدو أنها تملك قسطاً وافراً من الواقعية بل أكثر من ملحة للوصول إلى تصور يبعد شبح التشظي عن كلتا الجغرافيتين السورية والتركية على حد سواء.
أظهرت أنقرة على مر المراحل التي شهدتها الأزمة السورية الكثير من سوء النيات كما تأكد أنها تحمل بين ثنايا الأفكار أو السياسات مطامع جغرافية لدى الجار السوري، وما حال بين تلك المطامع وبين تحقيقها لم تكن العقلانية التركية إنما حال دونها موانع إقليمية ودولية معقدة ومن أهمها عاصفة (السوخوي + صواريخ اس 400) التي تكفلت بتحويل المساعي التركية إلى أحلام يقظة باتت تعطي مردوداً سياسياً سلبياً، حيث ستشكل حادثة إسقاط الطائرة الروسية 24/11/2015 مفترق طرق للدور التركي في سورية، حدده الرئيس الروسي في أول حديث له بعد تلك الحادثة معلناً فيه حرمة الأجواء السورية على الطائرات التركية تحت طائلة اعتبار ذلك الأمر عدواناً مباشراً على القوات الروسية وليس السورية فحسب.
استطاع إعلان الهدنة السورية 27/2/2016 برعاية دولية الحؤول بين الجيش السوري وبين إتمام عمليته التي كان قد أطلقها 1/2/2016 والتي كان يرمي من خلالها إلى فرض طوق عسكري حول المدينة لعزل المسلحين الموجودين فيها عن شرايين الإمداد التي تصلهم بالأراضي التركية، الأمر الذي أتاح للفصائل المسلحة إجراء عملية هيكلة شاملة تحضيراً لجولات كبرى كانت ترى أنها قادمة لا محالة، كان المشهد السابق مغايراً بدرجة كبيرة لدى جبهة النصرة التي تمثل الهدنة بالنسبة إليها تهديداً وجودياً فهي بنيوياً تعتاش على سفك الدماء والذي إذا ما توقف يفضي بها إلى حالة كسل وظيفي بينما استمرار ذلك التوقف يذهب بها نحو حالة موت سريري مؤكد، ومن هنا فقد عملت جبهة النصرة على تهديد الفصائل المسلحة المستظلة بظلالها إذا ما ظلت هذه الأخيرة على حالها بدءاً من سريان وقف إطلاق النار لترصد غرفة عمليات حميميم «354» خرقاً حتى منتصف شهر آذار الماضي.
ما حدث يومي 2+3/4/2016 كان خرقاً «جسيماً» على حد توصيف وزارة الدفاع الروسية، فقد قامت مجموعة من الفصائل بزعامة جبهة النصرة بالهجوم على ريف حلب الجنوبي وعلى ريف اللاذقية الشمالي، الأمر الذي مكنها من السيطرة على تلة العيس ليصل ذلك السيناريو إلى ذروته يوم 5/4/2016 عندما أعلنت جبهة النصرة عن إسقاط طائرة ميغ23 فوق هذه التلة الأخيرة في مؤشر على دخول المعارك آفاقاً جديدة وخطرة في الآن ذاته.
ولدت الأحداث السابقة مناخات حاكمة على المشهد الميداني في ظل استمرار الهدنة التي بدت للمرة الأولى أنها هشة بدرجة لم تكن متوقعة ليبرز في الآونة الأخيرة مؤشران على درجة عالية من الخطورة الأول: إسقاط طائرة الميغ السورية، الأمر الذي يشكل انزياحاً كبيراً إذا تأكد حصول الفصائل المسلحة على منظومة دفاع جوي (أو حتى لو كان الأمر قد تم بواسطة صاروخ حراري يحمل على الكتف) الأمر الذي يعني عندها وجود قرار بالتصعيد، فأمر من هذا النوع يستحيل أن يكون من دون وجود ضوء أخضر مؤثر فهو أكبر بكثير من أن يكون قراراً إقليمياً، وقد كان لافتاً البيان الذي أعلنه الجيش السوري بعد ساعات على إسقاط الطائرة السورية وفيه تم الإعلان عن قيام غرفة عمليات روسية- إيرانية- سورية بالاشتراك مع حزب اللـه مهمتها الأولى هي تحرير حلب وريفها الجنوبي والغربي (بينما غاب ذكر الريف الشمالي لاعتبارات إقليمية حساسة) مؤكداً (البيان) على وصول القوات الحليفة إلى خنادقها التي ستنطلق منها عندما يصدر القرار بمغادرتها إلى الهجوم.
الثاني: في تطور أيضاً لافت وغير مسبوق أطلق السفير الأميركي في أنقرة جون باس في 7/4/2016 تصريحاً قال فيه «إن المسؤولين الأميركان يبحثون مع الجيش والحكومة التركية كيف يمكن للمعارضة السورية المعتدلة دفع تنظيم الدولة الإسلامية نحو الشرق في سورية» فلو أطلق هذا التصريح ما قبل عاصفة السوخوي لكان يمثل رسماً كروكياً بالقلم الرصاص ولا تنقصه سوى بعض التتمات لكي يحبو باتجاه حلم الأحلام التركية (المنطقة الآمنة) إلا أن ذلك لا يعني قراراً بالذهاب نحو فرض هذه الأخيرة كأمر واقع.
اليوم تشخص الأبصار نحو حلب فالحشود العسكرية تقول ذلك والأسلحة المستقدمة تقول ذلك أيضاً، فلحلب خصوصية كبيرة ومعركتها ستكون (فيما لو خيضت) محددة لمصير المنطقة برمتها بدءاً من الخليج العربي في الجنوب إلى الأراضي التركية في الشمال، إلا أن صعوبتها تكمن في نظرة القوى إليها على أنها بيضة القبان في الحرب المستعرة بين دمشق وأنقرة، إضافة إلى أنها من التعقيد بحيث يصعب فيها تحديد القوى الداخلة في الصراع أو حجم مشاركتها فيه، ما يعني أن التوازنات العسكرية لن تكون مقدرة جيداً إلا لحظة بدء العمليات العسكرية.
نسف بيان الجيش السوري السابق الذكر ما كان يسمى ما بعد منتصف آذار المنصرم بحالة انكفاء روسية عن الأزمة السورية، فالإعلان عن مشاركة قوات روسية في حلب وقبلها كان الطيران الروسي قد أدى دوراً مهماً في معارك تدمر، وإذا ما وصفت حلب بأنها بيضة القبان في الحرب السورية فإن الدور الروسي في تلك الحرب سيكون بيضة القبان فيها بانتظار الإعلان عن شارة الهجوم.