تنتهي مرحلة الهدم بولادة الحبّ من جديد .. الدين والعلم والمال لفرح أنطون … رواية الإخلاص للمبدأ
| عامر فؤاد عامر
يستكشف «حليم» خلال رحلته إلى جمهوريّة المدن الثلاث مكونات كلّ واحدة منها، فقد شاع أن العصر الذهبي قد ابتدأ في هذه المدن، التي كان لكلّ واحدة منها اسم، فمدينة الدين اختص أهلها بشؤون التدين وممارسة طقوسه، ومدينة العلم كان أهلها من العلماء والدارسين والجادين في طريق العلم، ومدينة المال كانت مؤلفة من عمال وأرباب العمل، ويجمع بين هذه المدن حديقة كبيرة، تتوسطها في المسافة، ويجتمع فيها الناس لمناقشة الشؤون كلما تعاظمت مشكلة في واحدة من هذه المدن، ويرافق حليماً الذي يمتهن التصوير رفيقه صادق، واللذان يدخلان كلّ مدينة لدراسة شؤونها وملاحظة أحوالها والتجوّل في أحيائها واكتشاف المزيد فيها.
مظاهر وبواطن
يفاجأ الزائران بفوضى عمّت المدن الثلاث تلك، فبعد مرور 100 عام وأكثر على الإنشاء يظهر أن الفساد انتشر، ففي الظاهر يشاهدان شيئاً لكن في عمق المشهد يتضح العكس، ففي مدينة المال التي زاراها في البداية لاحظا جمال الأبنية وترف الحياة المدنيّة فيها وأناقة سكانها؛ لكن بعد التريث والنظر والبحث كانت هناك مظاهر كثيرة توحي بالتعلّق بالمال وبالبدانة في الشخصيّات والعجرفة في التصرفات، وأيضاً بالانتقال لمدينة العلم لمسا السكون والهدوء والبيوت الحقيرة، ومع مرور الوقت كانت المشاهدة تدل على قسوة المكان وأهله، وعدم التواصل بينهم، والجفاف والاختناق، وفي مدينة الدين كانت أصوات المآذن وأجراس الكنائس ذات إيقاع مريح جداً لهما، لكن في داخل المدينة كان التعظيم للزخارف ومظاهر الترف، ففي الظاهر شيء وفي الباطن شيء آخر مختلف.
حلّ الخلاف بالحوار
جمعت الحديقة دوراً مهماً في كونها نقطة الوصل كمكان فيه الأبنية المخصصة للاجتماع والمحاورة والمناقشة بين هذه المدن وفيها مبنى للبورصة يخصّ مدينة المال، ومكتبة تخصّ مدينة العلم ومكان فيه مكتبة دينية ومجمع للحديث يخصّان مدينة الدين، وكان رئيس المدن الثلاث يدعو الناس للنقاش في كلّ موسم متفق عليه لحلّ الخلافات والأزمات، ويتصادف هذا الاجتماع مع زيارة «حليم»، و«صادق» إلى جمهوريّة المدن الثلاث فيقرران حضور هذه الاجتماعات.
آداب النقاش والحوار
يدعو رئيس جمهورية المدن الثلاث بكلمة يلقيها على الحضور موصياً أن النقاش حالة صحيّة وضروريّة، لكن يلزمها آداب النقاش لضبطها، وإلا تحولت إلى خلاف مرير لا فائدة منه، ويؤكد الابتعاد عن العدوان والشدّة في الحديث والإساءة للآخر. يبدأ الحوار من العلاقة بين العمال وأرباب العمل، ومن العلاقة بين الدين والعلم، لكن كرهاً كبيراً بين قاطني هذه المدن هو الذي يسيطر على الحالة أكثر فكلٌ متزمت لمبدئه وكلٌّ يرى في نفسه الصواب وفي غيره الخطأ.
تنازع العمال ورؤسائهم
يقف زعيم العمال في الجلسة الأولى ليشرح للحضور مظالم العامل فيشرح عن مسألة الربح والتعب الذي يقدّمه العامل والفائدة التي يجنيها رئيسه فهو يتعب وذلك يتنعم، مضيفاً إن الأجور المتدنيّة أصبحت ترهق العمال كثيراً، إضافة لعجز العامل عن الإعالة وعجزه الأكبر في مرحلة الشيخوخة والمرض وعدم المقدرة على العمل، لاعناً العبوديّة تلك التي اخترعها التمدّن. أمّا دعوى أهل المال والتي جاءت رداً على زعيم العمال، فقام بإلقائها زعيم أرباب العمل، وشرح فيها، عن المشكلة الأزليّة بين العامل ورئيس العمل والطمع والحسد الموجّه من العامل، وضرورة وجود رؤوس الأموال الخاصّة في الجمهوريّة، وضرورة المال للحياة والتطوّر، ومزاحمته للقطع الأجنبي، مروراً بقدسيّة حقّ الملكيّة، ونسف الاشتراكيّة التي يرغب فيها العمال ونفي الجمعيات التي تمثلهم، واعتبار كلّ ما تحدّث به رئيس العمال خطراً على مشاريع التجارة والزراعة والصناعة وأن اللـه خلق الناس طبقات والاشتراك بين العامل ورئيسه ليس إلا وهماً.
دور المتطرف في الدين
يأتي دور مدينة الدين والكلام يكون لرئيسها فيستعرض بدوره ومن وجهة نظر هذه المدينة في وضع حدٍّ للأهواء والأطماع في نفس الإنسان، والبقاء على طبقات بين البشر فالمساواة بينهم في السماء وليست على الأرض! ويشير إلى تحريم العلم لأنه منتج للمدنيّة والحريات والتسيّب، وأن الحريّة في الفكر والتصرف والتملك كلّها حرام، وهنا يتضح تواطؤ رئيس مدينة الدين مع أرباب العمل ضدّ العمال لتثور الثائرة بين الحضور وتتسع رقعة الجدال والاعتراض إلى حدّ الصدام والقتال.
دعوة
ينتهي المشهد ليبدأ يوم جديد من النقاش يعلنه رئيس جمهوريّة المدن الثلاث ويأتي دور شيخ العلماء ليوضح بلغة أرق من الذين سبقوه أن اسمى مبادئ الدين هي التسليم والاستسلام إلى الخالق وترك هموم الدنيا، ويدعو إلى الابتعاد عن التصلّب والتعصّب، والعمل على مسألتين أولاً التوفيق بين العمال وأرباب العمل، وثانياً البحث في العلاقة بين الدين والعمل، اللذين يختلفان في الطرق ويتفقان في الغرض وهو تحسين حالة الإنسان وترقية شؤون البشر.
مقترحات
يخرج الاجتماع عن مقترحات يقدّمها شيخ العلماء في عدد من المواد كمبادرة لحسم النزاع والخلاف بين الجميع، فيطرح 9 مواد يدور فلكها في: زيادة الرواتب وحدود الأجرة، وساعات العمل، وفي تشغيل النساء والأطفال، وإنشاء صندوق للتقاعد، وضرورة الجمعية للحفاظ على حقوق العامل، والضريبة على الربح ومحدداتها، ومشاريع تقيمها الدولة من مال الضرائب، والمدارس المجانيّة والتعليم الإلزامي.
الحرب
تظهر الفوضى والعصيان ومظاهر التمرد والمواجهات وتتصاعد حدّتها، ويأبى البعض التعاون في إحياء السلام فتثور المشاكل ليحصد قاطنو المدن الثلاث نتيجة التطرف والتمسك بالمبادئ التي يقتنع بها كل طرف وينسف دور الآخر، وتكبر هذه المشاكل أكثر ليتحول العصيان إلى صدامات مسلّحة بين الناس من عمال وجيش وأرباب عمل وأهل الدين، وتقوم الحرب وتشتعل النار في المدن الثلاث ولا يقدر أحد على ضبط الحرب القائمة بل تستعر النيران أكثر فأكثر فيحصد الجميع نتيجة التطرف وهي خراب المدن الثلاث.
تحالف السماء والأرض
يضع الكاتب «فرح أنطون» نهاية لهذه الحرب من خلال تحالف السماء مع الأرض ونجدتها، فتظهر الصواعق وتقوم الزوابع ويهطل المطر الغزير لينهي النار ويقتل الكثير من الناس المنشغلة بهموم الحرب فلا ينجو إلا القليل من الناس وفي حديثٍ بين الشاهد على هذه الواقعة «حليم» وبين الفتاة التي تخرج من الحرب هاربةً مع أخواتها نقتطف هذا الكلام على لسانها: «إنني أنقل لك يا سيدي السبب الذي ذكره لي أبي أمس قبل دخولي غرفة النوم، فإنه أخذ بيدي بين يديه وقال لي: أتعرفين سبب كلّ هذه القبائح يا بنيّة، سببها الشراهة والأثرة والطمع، ولست أبرئ حزباً دون حزب، لأن التبعة واقعة على الجميع، ولا استغرب أن تخسف بنا الأرض أو تنقضّ علينا صواعق السماء ما دمنا بعيدين إلى هذا الحدّ عن مبدأ الرفق والإخاء».
الحبّ
ينسج مؤلف «المدن الثلاث» خطّاً خاصاً للحبّ من خلال بحث البطل «حليم» عن حبّه في الفتاة التي يلتقيها مصادفة في بداية زيارته للمكان، ليعود ويلتقي بها في نهاية الحرب، فيتعاهدان على الزواج وبناء المكان من جديد بعد خرابه، فيعيش الحبّ ويتنصر هنا، لبناء مرحلة جديدة من الأمل وقلب صفحة الألم.
توثيق
رواية «الدين والعلم والمال» جاءت في سلسلة كتاب الجيب العدد 101 لمؤلفها «فرح أنطون» الذي أصدرها في العام 1903 ويعيد إصدارها اليوم اتحاد الكتّاب العرب باختيار «مالك صقّور». وهي رواية لها إسقاطاتها على المرحلة الحاليّة وفيها فكرة وعبرة.