من دفتر الوطن

مِيْخَا

| حسن م. يوسف 

صعوداً في الطريق الملتوي الضيق نحو قمة جبل صنين كنت عند المنعطفات، وما أكثرها، أتشقلب مرعوباً في المقعد الخلفي من سيارة الكاديلاك الفخمة الضخمة ككرة داخل سلة متأرجحة، وكان الخواجا الشاب أنطون يتفنن في القيادة كما لو أنه مشترك في سباق جبلي للسيارات، ولا يفوته، بين الفينة والأخرى أن يرمقني بنظرة سريعة عبر المرآة وعيناه لا تكفان عن الضحك. كانت تلك هي المرة الثانية التي آتي فيها إلى فاريا في جبل لبنان للعمل كفاعل خلال العطلة الصيفية قبل ثمانية وأربعين عاماً.
أخيراً دخلنا في طريق ترابي أرغم الخواجا على التخفيف من سرعة الكاديلاك، لكن أحافير الطريق زادت من شقلباتي وأضافت إليها قفزات متتالة بين سقف السيارة وأرضيتها، ما جعل الخواجا، الذي يراقبني عبر المرآة، ينخرط في نوبة طويلة من الضحك المجلجل. وفجأة صرخت إذ اختفى الطريق من أمامنا وبرز سور بستان تفاح فاستخدم الخواجا أنطون مكابح السيارة بعنف مدروس ما جعلها تنزلق عدة أمتار قبل أن تقف على مقربة من بوابة البستان الحديدية. التفت الخواجا نحوي والسيارة تتأرجح بنا إلى الأمام والخلف وقال وهو يضحك: «لاتكون عملتها بالسيارة ولاه!».
ترجل من السيارة متمايلاً باعتداد كما لو أنه قد اجترح لتوه مأثرة لاتجارى، وصاح بأعلى صوته نحو البستان: «ميخا!»– قد يكون اختصار ميخائيل- وفجأة برز عبر السور رجل أربعيني زَرِيَّ الهيئة في فمه سيجارة وفي عينيه ضراوة.
أشار أنطون إليَّ بازدراء وطلب من ميخا بلهجة يمتزج فيها الجد بالاستخفاف أن «يخف عني» لأنني طالب بكلوريا. ثم ركب سيارته وبمناورة واحدة استطاع أن يعكس اتجاهها، ويعود من حيث جئنا بالسرعة الجنونية نفسها!
شرح لي ميخا كيفية قطف ثمار التفاح من دون خدشها أو رضها، وعلمني كيف أفرزها وألفها في أوراق بنفسجية قبل وضعها في الصناديق. كان ميخا مستوحشاً فراح يحكي لي من دون توقف، وخلال أقل من ساعة علمت منه أنه غير متزوج ولا يفكر في الزواج وأن صاحب البستان مات قبل نحو شهرين وأن رأس ابنه الخواجا أنطون «مشغول بالنسوان».
كان ميخا رجلاً لبنانياً بسيطاً لم ينل أي حظ من التعليم، وكان مجروحاً من هزيمة حزيران المذلة التي لم يكن قد مضى عليها سوى عام واحد، فراح يردد على الطالعة والنازلة: «العرب جرب». في البداية لزمت الصمت، ما استفز ميخا فطلب مني أن أحكي، إذا كان عندي ما أحكيه. قلت له إن كلامي قد لا يعجبه، فأمرني مجدداً بأن أحكي. أفهمته بلطف أن العرب مثل كل شعوب الدنيا فيهم الجيد وفيهم السيئ لذا فهم قد ينهزمون حيناً وينتصرون حيناً آخر. كان وقع كلامي على نفس ميخا طيباً فانتعش وقبل أن ينتصف النهار صار يعاملني بلطف، ثم سألني وهو يفرك يديه، هل كان هناك أمل في أن ينتصر العرب في المستقبل؟ وبما أنني كنت أصدق ما أسمعه من الإذاعة في ذلك الوقت، فقد أكدت له أن النصر قادم عما قريب، ورحت أغني: «بكرا التار التار بكرا، بكرا التار التار/ من عدو الدار بكرا، بكرا التار التار».
كان ميخا يقطف الثمار العالية عن شجرة كبيرة فراح يغني معي: «بكرا التار التار» ولفرط حماسه أخذ يؤرجح الغصن الذي يقف عليه، وبلمح البصر انسلخ الغصن عن الشجرة وسقط ميخا.
حوالى نصف قرن مضت على الحادثة، لكنني لن أنسى ما حييت حجم البؤس الهائل الذي كان في عيني ميخا وهو ينهض حاملاً يده المكسورة.
* فرضت هذه الذكريات نفسها عليّ لمناسبة وجودي في بيروت ضيفاً على بيت القصيد. وهي نواة قصة آمل أن أنجزها لاحقاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن