ثقافة وفن

الدفاتر العتيقة!

| إسماعيل مروة

عندما يُجدب الإنسان يبدأ العودة إلى دفاتره العتيقة، وقد برع العامة الذين نظن أنفسنا أكثر معرفة منهم في تصوير هذه الحالة من العجز الفظيع، يدوّر على دفاتره القديمة، أو بتعبير آخر، وما ذلك إلا لاستعراض بطولات مضت، قد تكون هذه البطولات حقيقية، وقد تكون غير حقيقية، والأمر سيان، فإن كانت حقيقية فقد مضى زمنها، وليس بإمكان هذا السيد أن يوقف التاريخ، فما بالنا أن يعيده وأن يجعل الزمن متراجعاً خطوات إلى الوراء، وقد تصل إلى عقود!! وإن لم تكن هذه البطولات حقيقية كان الأمر أكثر رحمة وسهولة، لأن من يستعرضها يحمل روح النكتة والتسلية، ولا يريد منها مآرب أخرى، المهم عنده أن يتحدث الناس بما فعل ولو من باب التندر، ولو في قضايا مرذولة وعادية وتافهة! أما المشكلة الكبرى فهي عند ذاك الذي عاش شيئاً من منجز ثم ركن إلى العجز والهدوء والسكينة، ويريد للزمن أن يتغنى بمنجزه السالف، بل أن يقف عند عطساته التي كانت قبل عقود، ولا يؤمن بأنها تعفنت وتجاوزها الزمن، وتبلغ المفارقة مداها عندما يكون ذلك المنجز هو الحقيقة في نظره، فلا أحد يملك الحقيقة سواه! ولا أحد يعرف كما يعرف هو!
وترتفع وتيرة هذه الخطورة عندما يكون الأمر ثقافياً، فهذا قاص لا يجاريه أحد بمجموعة خرجت من رحم المصادفة، وذاك كاتب زاوية لا يشق له غبار من زاوية سطرها وداعبت أحلام بعضهم، وثالث آراؤه السياسية التي كانت من الخمسينيات لا تزال صالحة في القرن الحادي والعشرين، وكل الناس لا يفهمون! بل إن أحدهم يتجاهل هيكل وينعته بالإكثار، ويرى أن هذه الكثرة على حساب الجودة! وإذا ذكر كاتب مبدع فإنه لا قيمة له أمامه، فهو وحده القادر على أن يكون مقدساً نصه يمكن أن يصلي به المصلي على أي دين كان أو أي مذهب أو أي طائفة!!
إذا كان المثقف بهذه المرتبة من التصنيف التي يفقد معها المصداقية، فما بالنا بغير المثقف؟! إذا كان من فتح نوافذه للشمس بهذا الدرك من التصنيف والانتماء فماذا نقول في الآخر الذي لم يطّلع ولم يقرأ؟ ماذا نقول فيمن لم يعرف طاغور وغاندي ولوركا وسارتر؟ الأمر أخطر مما نتخيل، وخاصة عندما نجلس مع مثقفين كان من المفترض أن يكونوا هداة، ومنارات، ونجد أحدهم يتبع هذا التصنيف المقيت للغاية! فمن ينتمي إليه هو الحق والصواب ولا شيء سواء، والذي لا ينتمي إليه، وإن كان مبدعاً حقيقياً فإنه لا قيمة له!
فهذا يحمل صورة فلان، ويحمل عبارة له، لمجرد أنه ينتمي إليه! وذاك ينتظر عطسة من يشاركه الانتماء ليمتدح ويطنب، فلا المتنبي له منجز أمامه! ولا نجيب محفوظ تقدم خطوة في الرواية أمامه! ولا ماركس وإنجلس ولينين عرفوا مجتمعين ما يعرفه العاطس!! وهذا يرى أن الآخر هرب في الأزمات، ويرى الحق مع المنتمي إليه، لأنه يخاف! هذه المنظومة بحاجة إلى نسف تام، فلا يصح أن نقول لفلان تخلّ عن انتمائك، والانتماء متأصل فيه وفي كل ثنية من المجتمع، ولا يكون ذلك إلا عن طريق واحدة لا ثاني لها، وهي تعزيز فكرة المواطنة، فالمواطن هو الأساس، والمواطنة هي الهوية، والمدنية هي السبيل الوحيد لحياة مثلى وعظيمة، وقادرة على الاستمرار، فلا دعوة إلا الدعوة إلى الوطن، والشريك الحقيقي هو شريك الوطن، لا شريك العقيدة والأيديولوجية والمنطقة، فالعقيدة وراثة، والأيديولوجية رأي، والمنطقة مسقط رأس أو مكان حياة، أما المواطنة فهي الهوية، والصدق في التعاطي مع الآخر هو المطلوب، لا التمثيل والمجاملة، إذ لا يجوز أن أجاري فلاناً، لأنه ليس مطلوباً، وبعد أن يغادر تبدأ مرحلة الشتم التي لا تنتهي، والذي لا يدريه هذا أنه يخسر كل شيء عندما ينتقص الآخر، وأول من يخسر نفسه عنده هو الذي ينتمي إليه ويسمع كلامه، ويستفيد من مكانته!
وأذكر حادثة طريفة مؤلمة، ذكرها لي صديقي «الآغا» فقد جلست معه منذ شهر، وتبادلنا أطراف الحديث بوجود أشخاص، وعندما تشعب الحديث إلى الحاضر، غيّرنا دفة الحديث، ودخلنا في أحاديث أكثر فائدة، وحين غادروا قال لي صديقي ذكرتني بحادثة حقيقية مفادها:
منذ أكثر من ثلاثين عاماً تلقى أحد الدعاة المعتدلين، وثمة اعتراض على سمة الاعتدال مني، إلى محاضرة جامعة، وهذا الشخص يعترف بالآخر كما يبدو، ولم يكن بحاجة إلى تصنع، لكنه من التوحيديين، الذين يؤمنون بالديانات الثلاث التي تحمل كتاباً، وتوجه الداعي إلى مكان اكتظ بالمستمعين فتحدث عن وحدة العقائد وأطنب، وتحدث عن اليهودية حديثاً طيباً، وميز بين اليهودية والصهيونية، وبرأ اليهودية من الدعوة العنصرية، ثم تناول الجانب المسيحي، فتحدث عما يوحد ولا خلاف فيه، وأسهب في قدسية العذراء البتول، وفي الحديث عن يسوع، وامتدح جميع الطوائف شرقية وغربية، ولم يتطرق إلى الإنجيل إلا بالتقديس، وثم تحدث عن الإسلام ومذاهبه، وكلها مذاهب جليلة ومحترمة، وأطنب في الحديث عن أن الاختلاف غنى ولا علاقة له بالخلاف الذي يفرق! ولم ينسَ الداعية أن يمتدح الجميع بما في ذلك الأيديولوجيات السياسية، ووضع اللوم كله على الشيطان وإبليس، وشتم النار والدمار والخراب، وحين انتهى قوبل بعاصفة من التصفيق، وحين جلس مع من دعاه سأله إن كان موفقاً في عرضه، فقال له ذاك: كل شيء على ما يرام، المحاضرة أجمل ما يكون، ولكن ما لنا وللشيطان، وإبليس والنار، فغر الداعية فاه عجباً، فتابع ذاك: لا تعجب سيدي، فهناك من الحاضرين من يقدّر الشيطان ويحترمه، وهناك من يرى إبليس صنو الذات ومتحديها، وهناك من يقدّر النار ويراها فوق كل شيء!!
إذاً ذهب الداعية إلى لقائه وهو مدجج بالحجج له ولمن ينتمي إليه، وللآخر وما ينتمي إليه، لكنه على الرغم من كل ما بذل من جهود خارقة لم يوفق في تحقيق إجماع، والإجماع أمر محال، وهو يدرك أن المولى سبحانه لم يحقق إجماع الناس والمخلوقات من إبليس إلى الملحدين!
أستحضر هذه القصة وما فيها للاستدلال على أن الداعية كان بإمكانه أن يختصر محاضرته وكلمته ببضع كلمات، وأن أي واحد منا، يمكن أن يختصر جهده وحياته ومماحكاته بكلمات بسيطة هي الوطن والمواطنة والمواطنية، وهذا يجنب أي واحد الحرج، ويجنبه المفاجأة حين يقول: لم أكن متوقعاً فلاناً كذا، ولم أكن متوقعاً وجود هذه أو ذاك من التيارات الفكرية!
الدفاتر العتيقة بحاجة إلى أمر واحد هو الإتلاف، سواء كانت الدفاتر فردية أم تعبر عن جماعات، فما فائدة أن أستذكر ذاتي قبل خمسين عاماً؟ وما الفائدة التي أجنيها من نشر أمر قاله أحدهم قبل عقود أو قرون؟ الفائدة الوحيدة شخصية وتنتهي بكوارث اجتماعية ومجتمعية!
لا نحتاج اليوم إلى رفع شعارات المدنية والعلمانية والدينية، وما شابه من مصطلحات، فطرحها يعزز الأزمة، ويظهر الخلافات الكبيرة، وخاصة عند التخندق الذي يمارسه هذا وذاك مع أو ضد! الشعارات مرحلية، والشعارات تفرّق، الشعار الوحيد الذي يصلح هو المواطنة والعمل الجاد على تعزيز المواطنة، لئلا نكتشف بعد مرحلة من الزمن أن الشعارات لم تقدم شيئاً، فقد ألغيت صفة الديانة من البطاقة الشخصية، وبعد عقود نكتشف أنها حذفت من البطاقة لكنها سكنت الجوارح، وخرجت في الساعة التي تشاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن