من نشر وروّج رواية «دكتور جيفاغو»؟!
| د. خلف الجراد
عندما كانت وسائل الإعلام السوفييتية تردد اتهامها على مدى أكثر من ثلاثين عاماً (بين عامي 1960 و1990) بشأن تبني «وكالة المخابرات المركزية» الأميركية (CIA) لرواية الكاتب الروسي بوريس باسترناك (دكتور جيفاغو) ونشرها على مستوى العالم، ومن ثم العمل على منحه جائزة نوبل في الأدب عن هذه الرواية في عام 1958، كان الرد النمطي الجاهز على ذلك يأتي كما يلي:
«ما يقال في هذا السياق كله «بروباغندا» شيوعية، فجائزة نوبل حرّة تماماً، وليس لأي جهة أو منظمة أميركية أو غيرها أي دور أو تأثير في إعطائها أو حجبها..». ولكن الصحفي ومؤرخ ومعد البرامج الإذاعية والتلفزية «السيناريست» الروسي المعروف «إيفان نيكيتيفيتش تولستوي» (حفيد الكاتب والشاعر السوفييتي أليكسي نيكيتيفيتش تولستوي)، الذي سافر في عام 1988 إلى فرنسا واشتغل هناك في عدد من المجلات الروسية المهجرية لغاية عام 1993، ثم عمل أيضاً في «راديو الحرية» في «براغ» و«ميونخ»، استطاع الحصول على نسخة روسية من هذه الرواية الإشكالية (التي كانت محظورة في العهد السوفييتي)، وصار لديه ما يشبه اليقين أن ما كانت تكرره وسائل الإعلام السوفييتية بخصوصها أمر صحيح. وبناء على ذلك قرر «إيفان تولستوي» متابعة الموضوع، وتفحص جميع الخيوط والدلائل، التي تكشف ملابسات وقصة هذه الرواية منذ صدورها في عام 1957، ومنح كاتبها جائزة نوبل في الآداب عام 1958، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي في عام 1965.
ونتيجة لتقصيه الطويل في عدد من العواصم الغربية وجد إيفان تولستوي أن القصة تبدأ عند المخابرات البريطانية التي رأت في رواية باسترناك فرصة مناسبة لضرب الاتحاد السوفييتي في مقتل، لما لها من قيمة دعائية، حيث تمثل اتجاهاً معاكساً تماماً للأيديولوجيا الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وتيار الواقعية الاشتراكية الذي كان سائداً حينذاك، حيث أرسلت المخابرات البريطانية رسالة لنظيرتها الأميركية مع نسخ من الرواية واقترحت نشرها على نطاق واسع في روسيا ودول الكتلة الاشتراكية. وقد لقيت الفكرة قبولاً قوياً لدى وكالة المخابرات المركزية الأميركية، التي قررت بدء العمل فوراً بتنفيذ خطة نشر الرواية وترويجها، ليس داخل دول الكتلة الاشتراكية فقط، وإنما على نطاق أوسع بعد ترجمتها إلى عدة لغات أجنبية، ما يتيح فرصاً أكبر لتشويه الاتحاد الاتحاد السوفييتي على أوسع حيّز عالمي ممكن.
في إطار تتبعه لقصة انتشار الرواية وبحثه عن حقيقة اللغط المثار حولها، وعندما كان إيفان تولستوي يعمل في «راديو الحرية» بـ«ميونيخ» (ألمانيا) التقى «غريغوري دانيلوف» المحررفي «الاتحاد المركزي لمهاجري ما بعد الحرب»، وهو فرع أوروبي لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، حيث ذكر «دانيلوف» أن الرواية كانت واحدة من «المشاريع» المهمة للاتحاد. وأكد أن مخطوط الرواية تم تسريبه من خلال القنوات الخلفية التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.
وبعد أن قضى إيفان تولستوي ما يقرب من العقدين من السنين، متجولاً ومشتغلاً في عدد من دول العالم الغربي، وإجرائه عشرات المقابلات واللقاءات مع أشخاص ربطتهم صلات مختلفة مع الروائي الروسي بوريس باسترناك مؤلف الرواية، قرر (إيفان تولستوي) في كانون الأول 2006 أنه أصبح ممتلكاً ما يكفي للإعلان عن الحقائق التي توصل إليها بشأن هذه الرواية. وفي محاضرة ألقاها بمكتبة موسكو للآداب الأجنبية، أكد إيفان تولتستوي أن المخابرات الأميركية والبريطانية وقفتا خلف مشروع الترويج لرواية باسترناك (دكتور جيفاغو)، وأن المخابرات المركزية الأميركية نشرت النسخة الروسية تحديداً لاستكمال مسوغات ترشيح باسترناك لجائزة نوبل، ومن ثم فوزه بها عام 1958. ورفضت المخابرات الأميركية حينها التعليق على هذا الكشف (موقع وكالة «سبوتنيك» الروسية– ثقافة، 11/10/2015).
لكن ما أكد صحة استنتاجات إيفان تولستوي هو الكتاب الذي أعدّه وأصدره في الولايات المتحدة الأميركية في عام 2014 كل من الباحثة الروسية «بيترا كوفي» والصحفي في جريدة «واشنطن بوست» «بيترفن» بعنوان (قضية جيفاغو: الكرملين والسي أي إيه والمعركة حول الكتاب الممنوع)، وذلك استناداً إلى وثائق وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي رفعت عنها السرية. حيث بينت الوثائق المفرج عنها التي استند الكتاب إليها الطرق والأساليب التي روجت بها وكالة المخابرات الأميركية للرواية، وكيف رتب الأمر لإصدار النسخة الروسية لها في هولندا، ثم توزيعها وتعميمها في «معرض الكتاب العالمي ببروكسل»، في جناح الفاتيكان، وتقديم عشرات النسخ منها مجاناً للزوار الروس لهذا الجناح، وكيف أن فريق المخابرات المركزية الأميركية المكلف عملية الترويج للرواية، بقيادة «جون موري» ركز على رسالة باسترناك التي تقوم على حرية الفرد في تقرير مصيره والتمتع بحياته الخاصة بعيداً عن تدخل الدولة بشؤونه. وكل ذلك يتفق مع الاستقصاءات والاستنتاجات التي توصل إليها المحرر الإذاعي والتلفزيوني ومؤرخ الأدب إيفان تولتسوي.
وقد ذكر مؤلفا الكتاب، (استناداً للوثائق الأميركية الرسمية المفرج عنها والمؤيدة بشهادات أقارب باسترناك وأصدقائه الأحياء) أن عميلاً للمخابرات البريطانية هرّب صورة فوتوغرافية من نص الرواية، أودعه باسترناك لدى مجموعة من الأجانب كانوا في زيارة له، بعد تأكده رفض السلطات السوفييتية نشر الرواية، ومن ضمن هؤلاء الناشر الإيطالي «جيا نجياكو فيلترنيلي»، كما تعمد باسترناك إعطاء نسخ من روايته لمحاضرين في جامعة أوكسفورد البريطانية، هما المنظّر الاجتماعي– السياسي والفيلسوف الروسي– البريطاني المعروف «أشعيا برلين» (1908-1997) و«جورج كاكتوف»، الذي كان يتقن اللغة الروسية، وهو الوسيط الذي أوصل النسخة للمخابرات البريطانية، التي كان على علاقة بها وبعدد من الشخصيات الدبلوماسية البريطانية النافذة (نقلاً عن وكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام الروسية).
والجدير بالذكر أن رواية (دكتور جيفاغو) حوّلها السير «ديفيد لين» المخرج والمنتج البريطاني (1908-1991) إلى فيلم سينمائي في عام 1965، من بطولة النجم المصري العالمي عمر الشريف و«جولي كريستي»، حظي بإقبال وانتشار عالمي واسع لتألق ممثليه وأدائهم الرائع من جهة، وللدعاية البريطانية– الأميركية- الغربية الهائلة التي رافقته وروّجت له من جهة أخرى..