من أوراق الزمن المنسي .. وسرقوا اللواء وكنا نغرق بأحلام وردية
| شمس الدين العجلاني
يقول قائل لكل أمر خفاياه، وخاصة في الشأن السياسي، ولربما في حياتنا السياسية الكثير من الخفايا!
في الأوراق المنسية حول سرقة لواء اسكندرون أمور نقف عندها في انبهار ولا نعرف السبب!
هل الحكومات متهمة؟
نتساءل هل تقاعست الحكومات السورية بمسؤولياتها في الدفاع والحفاظ على لواء اسكندرون؟ وأنها لم تكن على مستوى المسؤولية للأمانة التي وضعت بين يديها؟
هل كانت الحكومات السورية في خندق واحد مع الشعب في الحفاظ على لواء اسكندرون؟ أم كان كل يغني على ليلاه؟
نتساءل هل كانت الحكومات المتتالية زمن سرقة لواء اسكندرون لا تدري بما يجري حولها؟ إن كانت تدري ولم تفعل شيئاً فتلك مصيبة، وإن كانت لا تدري فالمصيبة أكبر.
نفتح صفحات الحكومات في ذاك الزمن ونقرأ بعضاً من البيانات الوزارية لتلك الحكومات المقدمة لمجلس النواب فيما يخص لواء اسكندرون، في البيان الوزاري لحكومة جميل مردم بك عام 1936 م، الذي قدمه لمجلس النواب لنيل الثقة، ونال الثقة من النواب على بيانه جاء فيه: «بقي علينا أن نتكلم عن المشكلة الخطيرة التي واجهتها سورية في بدء عهدها الجديد وهي مشكلة الاسكندرونة. ولما كان سير الحوادث قريباً جداً لا نرى حاجة للتفصيل والإفاضة وقد اطلعتم على المذكرات المتبادلة وعلى المناقشة في مجلس العصبة – يقصد عصبة الأمم – والقرارات التي اتخذها، وانتقال المفاوضات إلى باريس، وحسبنا الآن أن نقول إننا ننظر بملء الثقة والطمأنينة إلى مستقبل هذه المنطقة العربية الشامية منذ أجيال متطاولة التي لا تستطيع سورية أن تتخلى عنها أو أن تحيا من دونها». ولم ينس بيان حكومة مردم بك من تقديم الشكر للحليفة فرنسا على موقفها من قضية لواء اسكندرون!: «ولا بد لنا ونحن نذكر هذه القضية من أن نشيد بالموقف الجدير بالذكر والثناء الذي وقفته حليفتنا الكبرى فرنسا في المدافعة عن حقوق سورية التي ائتمنتها عليها عصبة الأمم. وذلك الكلام البليغ الذي نطق به المسيو فينو في صدد الدفاع عن هذه الحقوق كان له أعظم وقع في بلاد العرب كلها. وكأن سير هذه القضية وما يجري فيها من تعاون وثيق بين فرنسا وسورية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وسير أعمالنا الداخلية في ممارسة حقوقنا المشروعة، جاءا في وقت واحد كبرهانين عظيمين على ما ينطوي علية عقد التحالف بين بلدينا من فوائد جليلة، وما ننتظر من ورائه إدراك حريتنا الكاملة..».
أما بيان رئيس الوزراء لطفي الحفار في المجلس النيابي عام 1939 م، فلم يرد به أي ذكر للواء اسكندرون! وكذلك الأمر في بيان حكومة حسن الحكيم إلى الشعب السوري والمنشور في الجريدة الرسمية يوم 14-10-1940… واستمر أمر البيانات الوزارية على هذه الحال ونسيت الحكومات المتعاقبة سرقة لواء اسكندرون وتوابعه!
وفي الوقت ذاته كانت التظاهرات تعم البلاد السورية ضد المحتل الفرنسي ومؤامرته على تسهيل ودعم سرقة لواء اسكندرون من تركيا.. ولا ننسى أن أهم التظاهرات كانت النسائية..
اللافت للنظر والخطير إن صحت التسمية هو توقيع سورية على معاهدة الاستقلال التي عرفت بمعاهدة 1936، فحسب المعروف أن الوفد السوري المفاوض في باريس وقع رئيسه هاشم الأتاسي على نصوص المعاهدة التي منها القبول بكل ما وقعت عليه الحكومة الفرنسية من اتفاقيات سبقت توقيع المعاهدة، بما في ذلك ما يخص إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وإنشاء دولة لبنان، وعلى ما اتفقت عليه فرنسا مع الأتراك فيما يتعلق بمنطقة لواء اسكندرون!؟ وقد ورد في المادة الثالثة من معاهدة 1936: « يتخذ الطرفان الساميان المتعاقدان جميع التدابير النافعة لتنقل يوم زوال الانتداب إلى الحكومة السورية وحدها الحقوق والواجبات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات وسائر العقود الدولية التي عقدتها الحكومة الفرنسية فيما يخص سورية أو باسمها».
ويرى السياسي والدبلوماسي السوري نجيب الأرمنازي في محاضرة له ألقاها أمام طلاب قسم الدراسات التاريخية في جامعة دمشق عام 1953م أن تقاعس الحكومة السورية في قضية لواء اسكندرون يعود إلى أن «الحكومة التركية أثارت مشكلة الاسكندرونة، وسورية لم تكد تنفض عنها غبار الاستعمار الفرنسي وتتحرر من قيوده. فكانت الحكومة السورية لا تستطيع أن تتخذ سياسة مستقلة في معالجة هذه المشكلة الخطيرة بسبب وضعها الدولي من ناحية، وبسبب محاذرة رجالها من إغضاب الرأي العام الذي كان ينادي بوجوب المحافظة على اللواء العربي محافظة تامة».
علما أن الوفد السوري المفاوض تألف من تسع شخصيات سورية وافقت عليها فرنسا واعتبرتها ممثلة للشعب السوري وناطقة باسمه وهي: «هاشم الأتاسي، فارس الخوري، سعد الله الجابري، جميل مردم بك، إدمون الحمصي، مصطفى الشهابي، نعيم الأنطاكي، أحمد اللحام، وإدمون الربّاط».
ملامح السرقة
إزاء التعنت الفرنسي بعدم التصديق على معاهدة 1936 المعقودة بين سورية وفرنسا ودعم تركيا بسرقة لواء اسكندرون وملحقاته لضمان بقاء تركيا على الحياد في الحرب بين الحلفاء ودول المحور (ألمانيا وإيطاليا) والطمع في الامتيازات الاقتصادية التي ستمنح لها من قبل تركيا، إزاء كل ذلك عمت التظاهرات مختلف المدن السورية ضد الفرنسيين وضد الحكومات السورية المتعاقبة، بسبب التهاون تجاه قضية اللواء فاستقالت آخر حكومة تشكلت برئاسة نصوح البخاري في 15 أيار 1939 م، وكانت حكومة البخاري رفضت تقديم بيانها الوزاري إلى مجلس النواب معللة ذلك بكتاب أرسل إلى رئيس مجلس النواب فارس الخوري، ومما جاء فيه: « لما كانت البلاد قلقة على مصيرها السياسي وكان يتحتم قبل كل شيء أن تحقق لها مطالبها الوطنية… رأت الحكومة أن تؤجل تقديم هذا البيان ريثما يصدر عن الجانب الفرنسي التصريح المنتظر الذي يبعث الارتياح والثقة في النفوس على ذلك المصير ولا سيما فيما يتعلق بإبرام المعاهدة المعقودة عام 1936 وتنفيذ أحكامها، ومتى وجدت الحكومة في أمد قريب أنه أصبح لديها الوسائل التي تستطيع معها المثابرة على القيام بأعباء الحكم فإنها تطلب من مجلسكم الكريم أن يعين جلسة تتقدم فيها إليه ببيانها – 15 نيسان 1939 ». المفوض السامي الفرنسي المسيو بيو، أصدر بياناً للشعب السوري نشر في الجريدة الرسمية يوم 23-5-1939، محاولاً إغراق الشعب السوري بالأحلام المخملية الزائفة ومما جاء في بيانه: «إن الحكومة الفرنسية لا تزال أمينة على التعهد الذي قطعته بإيصال سورية صديقة فرنسا وحليفتها إلى الاستقلال» ويتابع بيو القول في بيانه: «إن الحكومة الفرنسية مقتنعة بغيرة سورية على سلامتها، تعتبر أن تطور الحالة الدولية يستدعي تنظيماً جديداً للتعاون العسكري بين فرنسا وسورية… يجب أن يضمن للجميع، أيا كانت المنطقة التي يقطنونها، وأياً كان مذهبهم، المساواة العادلة في ظل الشرائع…»..
استقال على أثر ذلك رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي معللاً ذلك بنكوث الحكومة الفرنسية عن تنفيذ وعودها وتصديق المعاهدة، ومحملا إياها تبعة ما يحدث.
وعلى أثر ذلك أيضاً أصدر المفوض السامي الفرنسي المسيو بيو في 7 تموز 1939 قراراً بوقف تنفيذ الدستور السوري وبحل مجلس النواب، وفي اليوم الثاني كلف السيد بهيج الخطيب اللبناني المعروف بتعاونه مع المحتل الفرنسي بتشكيل حكومة المديرين تحت إشراف ومراقبة المفوض السامي بتسيير أمور الدولة، وبذلك عادت السلطة الفرنسية لفرض إرادتها وهيمنتها علي البلاد، وقد وصف المفوض السامي بهيج الخطيب حسبما ورد في أوراق جميل مردم بك: «أحد الموظفين الأكفياء الموالين للانتداب الفرنسي».
وفي زمن هذا الموظف الموالي لفرنسا سُرق لواء اسكندرون، وتسلمت الحكومة التركية اللواء من المحتل الفرنسي في احتفال رسمي يوم 23 تموز 1939 م وهو اليوم الذي أنزل فيه العلم الفرنسي ورفع فيه علم اللص السارق..
إجراءات المحتل الفرنسي
كان المحتل الفرنسي يغرقنا في الأحلام المخملية ويسمعنا أعذب الكلام وفي الوقت نفسه يمهد لسرقة اللواء!؟
فقد شجعت فرنسا الأتراك المقيمين في اللواء على التمرد ضد السوريين أهل اللواء ويذكر الدكتور مجيد حضوري في كتابة «قضية الاسكندرونة» الصادر في الخمسينيات من القرن الماضي: «كان المسيو دوريو الذي شغل منصب مندوب المفوض السامي في الاسكندرونة، والمسيو كارد الذي خلفه، يتبعان سياسة لا مركزية استفاد منها الأتراك، وتذمر منها العرب، أما الكومندان «كولين» الذي خلف «كارد» وبقي في اللواء بعد انفصاله، فكانت ميوله مماثلة لأتراك اللواء، والواقع أن الجانب العربي لم ينل من عطف الموظفين الفرنسيين ما حظي به العنصر التركي» ومع ازدياد الدعم والتشجيع الفرنسي ازداد الطمع التركي، فأخذت العصابات التركية المعروفة باسم «جثا» تغير على الحدود السورية، وكانت سورية حينها في ثورتها على المحتل الفرنسي 1925 –1927 م وكان المفوض السامي «دي جوفيتل» الذي أعطى تركيا بعض القرى السورية!؟ ومع ذلك وقعت معاهدة 1936 بين سورية وفرنسا ولم يكن فيها ما يشير إلى لواء اسكندرون..
عملت سلطات تركيا على تشكيل جمعيات عنصرية وعصابات إرهابية لإثارة الفتن في اللواء، ففي عام1936 م قاموا بتأليف جمعية عنصرية اسمها «هاتاي» التي عهد إليها بالاعتداء على السوريين وإثارة الاضطرابات بينهم وبين السكان الأتراك، ومن أهمها العصابات التي شكلتها تركيا كانت «جثا» وأخذت هذه التنظيمات تثير الاضطرابات بين السوريين والأتراك، وبرز من الأسماء التركية العنصرية اسم عبد الرحمن ملك الذي اشترك في العمل لفصل اللواء عن سورية، ومن ثم أصبح زعيم الحزب التركي الكمالي، وعين مديراً للداخلية في لواء اسكندرون.
وهنا برز نشاط «عصبة العمل القومي» وهي جمعية عربية سورية عرفت بكفاحها العنيف وبمقاطعتها الشديدة للفرنسيين وعدم تعاونها معهم، وكان زعيمها هو الدكتور زكي الارسوزي وكانت هذه العصبة تضم أكثرية مجموعة خيرة من أبناء اللواء من مسيحيين ومسلمين وأصدرت عام 1937 م جريدة «العروبة» وكانت تطبع وتوزع المنشورات الدورية لتنظيم المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي وأطماع تركيا.
واستمر المحتل الفرنسي والبريطاني في العمل على الصعد كافة لمساعدة تركيا في سرقة لواء اسكندرون، ففي 29 أيار 1937 أصدرت عصبة الأمم قراراً بفصل اللواء عن سورية وعُين للواء حاكم فرنسي.
في 15 تموز 1938 دخلت القوات التركية بشكل مفاجئ إلى مدن اللواء (واحتلتها)، بتنسيق مع المحتل الفرنسي.
عصبة الأمم أقرت إرسال لجنة استفتاء إلى اللواء لأخذ الرأي من سكان وأهالي اللواء، وعندما تأكدت تركيا وفرنسا أن نتيجة الاستفتاء ستكون لمصلحة سورية، عينت فرنسا مفوضاً فرنسياً جديداً في اللواء هو «الكومندان كولية» فأقصى العرب عن جميع الوظائف الحكومية وعين التركي العنصري عبد الرحمن ملك مديراً للداخلية، وأسند قيادة الدرك والشرطة والمخافر للموظفين الأتراك، وحل عصبة العمل القومي «وأغلق جريدتها» العروبة «وأغلق نادي العروبة وسجن الشباب السوريين المقاومين لأطماع تركيا والمحتل الفرنسي.. وبذلك اكتملت الحكاية الفرنسية – التركية في سرقة لواء اسكندرون وملحقاته، مرسين وطرسوس وكيليكية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر..
وبعد
وكان لواء اسكندرون اللواء السليب والمسروق في وضح النهار وعتمة الليل من قبل تركيا وبمساعدة المحتل الفرنسي والبريطاني..
يبقى سؤال يخطر في بال كل من يهتم بتاريخنا: هل كانت «عصبة العمل القومي» وعملها في الدفاع عن اللواء أهم من عمل الحكومات التي كانت غارقة في عسل المحتل ووعوده!؟
رحم الله أنطون سعادة الذي قال يوم 17 آذار عام 1937 م: «تركية هي أقرب وأقوى وأخطر الدول التي تنظر إلينا بعين جشعة، وهي ترتقب الفرص الدولية لتتمكن من عمل شيء من هذا القبيل. فما واجبنا القومي إذاً ونحن نعرف ما نعرفه عن طمع الغير بنا؟ علينا أن نكون أقوياء، لأن الضعف يسهل مضغنا، وبالأخص فإن فقدان التجانس بين أفراد المجموع ولّد فينا إرادات جزئية سهلت تجزئة سورية إلى دويلات. ولم تزل عملية التشريح والتقسيم جارية حتى اليوم لما يرون في مجموعنا من حيوية وقوة تكون خطراً عليهم».
وسرقوا اللواء وكنا نغرق بأحلام وردية.