ثقافة وفن

ماما.. حكاية مع المرض.. الأمل.. الموت … عندما تتغلب العاطفة على كل شيء.. يصبح المستحيل ممكناً

| ديالا غنطوس

عندما تتغلب العاطفة على الجسد، وعندما تتجبر الروح على المرض، وعندما تكابر المرأة على آلام الحياة ومعاناتها لأجل الولد، تكون أماً بكل التفاصيل الحاضرة والغائبة، نزعة للحياة تتملكها ورغبة بالبقاء تتمسك بها، لا لأجلها بل لأجل فلذات أكبادها، لأجل أحبائها، تكون أماً بألف جسد، وألف قلبٍ يحبُّ بكل طهرِ الكون ونقائه.
إن دور الأم وكفاحها من أجل أبنائها وأسرتها وتعدد قصص تفاني وبذل الأمهات المنتشرة في كل الأزمنة والأمكنة كان كفيلاً بإلهام صناع السينما العالمية على اختلاف جنسياتها لتقديم بعضٍ من تلك القصص بقالب سينمائي يمنحها حقها بالانتشار ويمنح الجمهور فرصة التعرف على ما تحمله من معانٍ سامية ومؤثرة تلامس القلوب.

وأستذكر هنا أحد تلك الأفلام الذي ترك بصمة خاصة في قلبي، وهو الفيلم الإسباني ماما أو (Ma Ma) من إنتاج عام 2015، فعلى الرغم من مأساوية القضية التي يطرحها الفيلم إلا أنه يضم خليطاً من البهجة والأمل ليكونا رفيقي رحلة الأسى التي تعانيها «ماجدة» والتي أدت فيها الممثلة المتألقة «بينيلوبي كروز» دور البطولة مجسدة دور الأم في رحلة معاناتها مع مرض سرطان الثدي، الذي تنتصر عليه بإحدى جولاته، قبل أن يعود ويقتلها لاحقاً، ماجدة أم لفتى في مقتبل العمر «داني»، هجرها زوجها الأكاديمي «راؤول» بسبب علاقة غرامية مع إحدى طالباته دفعته للتخلي عن أسرته، ابنها داني يهوى كرة القدم، وتأتي فرصته بعد أن تعرفت والدته أثناء حضورها إحدى مبارياته على رجل يعمل كمكتشف للمواهب في ناد شهير، يدعى «أرتورو» ليكون داني مشروعه الرياضي الخلاق القادم، لكن سعادتها لم تكتمل، إذ يتلقى أرتورو نبأ وقوع حادث اصطدام سيارة أسفر عن مقتل ابنته ودخول زوجته بغيبوبة، ترافق ماجدة الرجل المذهول إلى المستشفى، وتواصل زيارته بعد جلسات العلاج الإشعاعي التي تخضع لها، تنشأ علاقة صداقة بين ماجدة وأرتورو، تتوطد وتتعمق بعد وفاة زوجته، حيث يتبادلان الدعم النفسي والعاطفي سعياً منهما لتجاوز محنتيهما، يغمر الحب حياة ماجدة من قبل ثلاثة رجال يطوفون حولها، (أحدهم زوجها راؤول الذي عاد نادماً على فعلته)، وكذلك طبيبها المعالج جوليان، وهو الطبيب الذي يكرس كل وقته واهتمامه لمرضاه، وعلى وجه الخصوص مريضته المميزة ماجدة، حتى إنه كان يغني لها أغاني الحب بانتظام، يخبرها جوليان أنه يجب استئصال نصف ثديها، وتخضع ماجدة للعملية التي تكللت بالنجاح، ويزف لها الطبيب الخبر السعيد بأنها شفيت تماماً من المرض.
لكن الصدمة التالية كانت بعودة الخلايا السرطانية لاحقاً وانتشارها في الجزء الآخر من صدرها، وانعدام إمكانية العلاج في هذه الحالة، وخصوصاً أن ذلك مترافق هذه المرة مع كونها حاملاً من أرتورو، تصر ماجدة على الإنجاب متمنية أن ترزق بفتاة تسميها ناتاشا، فتخوض رحلة جديدة من الصعوبات متحلية بقدر عالٍ من التحدي والتصميم والقوة الداخلية وكلها أمل أن تشفيها ابنتها من الداخل، أعطاها الطبيب جوليان مدة 6 أشهر متبقية لها في الحياة، لكن عزمها وقوة إرادتها مكناها من إطالة المدة حتى 8 أشهر، مؤدية بذلك مهمتها على أكمل وجه حيث أوصلت طفلتها إلى بر الأمان، وبمجرد ولادة ناتاشا توقف قلب ماجدة عن الخفقان، وانتقل النبض من جسد لجسد ليحيي قلب طفلتها، ورحلت تاركة ابنها وابنتها بأمان لدى أرتورو وجوليان.
على القدر نفسه من سمو الأم وعظَمة شأنها وتأثيرها العميق، نطالع قصة فيلم «فورست غامب Forrest Gump» للنجم القدير توم هانكس، الذي يروي قصة الطفل فورست غامب الذي يعاني من بطء في الفهم والإدراك، على الرغم من قوته البدنية، يضطر فورست لارتداء دعامات حديدية في قدميه تمكنه من السير وهو صغير، وهو ما جعله محط سخرية وقسوة الأطفال المحيطين به، فيتعرض للمضايقات ويلجأ للجري هرباً منهم، نرى والدته المجهدة بإدارة منزلها الكبير الذي يضم غرفاً كثيرة فارغة تؤجرها للمسافرين وعابري السبيل بهدف تأمين المال اللازم لرعاية ابنها، احتوت ابنها بعاطفتها وتصرفت مع حالته بذكاء مع رفضها إدخاله مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة لحرصها عليه، فتعاملت معه كإنسان طبيعي تماما ما استدعى منها جهداً مضاعفاً، فابتكرت تعبيرات خاصة تستخدمها لتوضيح الأمور له، وساعدها صبر الأم على شرح الحياة لابنها ذي القدرات المحدودة بأسلوب مبسط يستطيع فهمه، فكان لها تأثير عميق في تكوين أفكاره وتطوير مداركه من خلال دعمها المطلق له وإيمانها به من دون أي يأس أو كلل أو استسلام، وبوصوله إلى مرحلة الشباب يتسلم فورست دفة إدارة حياته من والدته، وبعد أن نمت موهبته في الجري يلتحق بالخدمة العسكرية في الجيش الأميركي، وخلال الحرب في فييتنام يتمكن من إنقاذ العديد من الجنود، ويشعر بالفخر حين يتم تكريمه بميدالية الشرف من الرئيس الأميركي، وبعد انقضاء فترة خدمته وعودته للوطن يختتم الفيلم بمشهد يجمع بين فورست وابنه بانتظار سيارة المدرسة، يجلس الأب فورست أسفل إحدى الأشجار التي جلست عليها والدته يوماً ما أثناء مرافقتها له في يومه الأول بالمدرسة، مستذكراً تلك المرأة الأم الحنون التي جعلت منه رجلاً من أفضل الرجال.
أما الفيلم الذي تطرق لحالة فيها شيء من الغرابة كان فيلم «زوجة الأب Stepmom» بطولة المبدعة جوليا روبرتس، حيث تتعرض أسرة هاريسون المكونة من الأب والأم لوك وجاكي وابنتهما وطفلهما لهزة حين يقرر الزوجان الانفصال بعد إخفاق محاولاتهما لحل الخلافات بينهما، بهدف الحفاظ على ما تبقى من ود واحترام أمام طفليهما، بعد الطلاق يتزوج الأب بالفتاة التي أحبها «إيزابيل» التي تصغره بعشرات السنوات، لم تتصور إيزابيل نفسها في موقع يفرض عليها رعاية الطفلين وتربيتهما، وهو الأمر الذي عانت منه في الفترة القصيرة التي قضاها معها الطفلان قبل عودتهما لأمهما، إلا أنها تكتشف مصادفة ما تخفيه الزوجة الأولى جاكي حول إصابتها بالسرطان في مراحله المتأخرة وأنها على وشك الرحيل خلال أسابيع معدودة، تجد جاكي نفسها مجبرة على طلب العون فيما يخص أولادها من شخص تثق فيه، فلا تجد سوى إيزابيل، التي لم تردها خائبة على الرغم من ترددها، تتعامل إيزابيل مع الأبناء كصديقة وليس كأم، ما يدفع جاكي لاتخاذ قرار شجاع وأليم في ذات الوقت وهو أن تسمح لإيزابيل بالانخراط بالعائلة بشكل واضح، وذلك بسبب خوفها من رحيلها الوشيك قبل أن تنظم أمور أطفالها، فتقوم بمصارحة طليقها وإيزابيل، كما تشرح الأمر للطفلين في مشهد مؤلم يحمل الكثير من المعاني الإنسانية وفيضاً من المشاعر العميقة، حيث تقوم الأم مرغمة بوضع أطفالها عهدة لدى غيرها، ليس لشيء سوى أنها تترقب لحظة رحيلها، فتسعى بذكاء لضمان الاستقرار والأمان لأطفالها، مستبقة الحدث الأليم بتجميل صورة الأب وزوجته الجديدة بنظر أطفالها، ونراها تقدم لهما هدية تذكارية وداعية تحوي كل الذكريات التي جمعتها بهما في حياتها، معلنة استمرارية بقائها بالروح حتى بعد رحيل الجسد، وتؤكد أن الأم حالة استثنائية لا تتكرر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن