ثقافة وفن

هزوان الوز يشرّح الانهيار القيمي في (سرير من الوهم) … المخدرات وتجارة الرقيق والسلب سمات المجتمعات التي تنهار!

إسماعيل مروة

«تمتمت: كأنما وضع الشعب في سفينة تغرق، وبدأ كل واحد يبحث عن سبيل للنجاة، بعض ممن لا يجيدون السباحة رمى بنفسه إلى المياه، وآخرون يجمعون ما استطاعوا من غنائم قبل رمي أنفسهم، وقسم ثالث يتحرك في أرجاء السفينة وهو على يقين بأنه قادر على صنع المعجزة وإنقاذها، والقسم الرابع والأكبر يجلس خائفاً ساكناً يتضرع إلى الله كي يعين القبطان على إنقاذ السفينة، ومتابعة الرحلة للوصول إلى الجنات التي يحلمون بها» ص 183
مقطع معبر ومؤثر وموح من رواية د. هزوان الوز (سرير من الوهم) الصادرة عن دار الفارابي بيروت في طبعتها الثانية منذ شهر، ولا يكتمل المشهد إلا إذا علمنا أن الرواية طبعت أول مرة عام 2000 قبل ستة عشر عاماً، وربما كان هذا المقطع المؤثر وأشباهه وراء إعادة طبع الرواية مجدداً.

الاستلهام والعودة إلى الموروث
اخترت هذا المقطع لما فيه من استلهام للنص القرآني، وصورة السفينة، وما دار من حوار بين موسى والخضر، فغوربتشوف قد يكون فعل في منظومة الاتحاد السوفييتي آنذاك ما يفعله خارق السفينة ليغرق أهلها، والتناص بين القصتين مهم للغاية، وإن كان الروائي قد استلهم المشهد من دون الدخول في التفاصيل الخاصة بالنص والعبرة لمشهدية شاهدها وعاصرها في انهيار الاتحاد السوفييتي بذريعة البيروسترويكا، وصنع مشهديته الخاصة بتقسيم الناس إلى أربعة أنواع، أحدها ذهب غرقاً، والآخر يمارس اللصوصية، والثالث يملك اليقين، والرابع يتعلق بحبال الألم والأمل! وهذه الصورة على ما فيها لم نكن لنتأثر بها لولا ما يجري اليوم على الأرض السورية من حرب شعواء، ولم نكن لنتخيلها، وخاصة أن بعض الرفاق الشيوعيين من العرب لم يأخذوا من تلك التجربة إلا شتم غورباتشوف وكيل التهم والإدانات له، وهو مدان، ولكن الروائي الذي درس في الاتحاد السوفييتي وأحبه قدّم الرؤية الأعمق التي تجذر الفساد فيها فمكنت من الوصول إلى مرحلة التحول والتفكك والبيروسترويكا، إضافة إلى تشريح مرحلة التحول نفسها وما رافقها من الداخل.. ومع أن الرواية صدرت عام 2000 إلا أنه على ما يبدو لم تنل حظها من الاهتمام الذي يجعلنا ندرس التحولات الكبرى، والاستعداد الكافي لها.
هزار وأولغا

شخصيتان نسائيتان رسمهما الروائي بإتقان إحداهما في دمشق هزار، والثانية أولغا في الاتحاد السوفييتي، عاش حياته مع الأولى، ولكن معالم حياتها منعتهما من الاقتران، يشتاق إليها ولا يجدها، وتشتاق إليه ولا تسعى إلى لقائه، وحين يصبح اللقاء محالاً تبدأ مراسلاتها على شكل رسائل تستعيد الألق، وتبث الشوق، وتمثل الحيادية والقبول، والثانية تعمل محققة في مدينة غير التي يسكنها، يلتقيان، يعيشان معاً، وما رفضه من هزار قبله مع أولغا، ويأتي صادق من أولغا، وحين تصبح أولغا قادرة على نطق اسمه أحمد بشكل صحيح، تنتشر العصابات والمافيات في الاتحاد السوفييتي كنتيجة طبيعية للفوضى والبيروسترويكا، وتنتهي أولغا التي تحاول الوصول إلى الحقائق وتتبعها نتيجة مهنتها نهاية مأساوية، مقتولة بعد أن انتهك جسدها، ومثّل بها.. وما بينهما كان الصراع الذي يكشفه الروائي، فهزار نتيجة الفساد تنتهك من ابن أحد المسؤولين الذي يرسله أبوه إلى الخارج ليتخلص من ممارساته وتبعاتها، وتبقى هزار لتدفع ثمن هذا الفساد، وأولغا تدفع ذلك الثمن نتيجة طبيعية للفساد والمافيات التي تفشت بالفوضى.. وفي الوقت الذي تنتهي فيه أولغا، تصل رسالة هزار التي تنبئ باختيارها نهايتها وقد يئست من البقاء، واختارت سمّ الفئران لتنهي رحلة مضنية عاشتها بين واقع وما تريد، بعد أن تتسلل الأحداث التي تسردها الرسائل إلى أخت أحمد وأسرته حباً به، وحباً بكل ما يمت إليه بصلة.

الفساد والفوضى
يقدم الروائي من خلال معاينته ومعاشرته ودراسته هناك نماذج للفساد، نسمع ببعضها، ولكن الأغلب لا نعرف تفاصيله، وأغلب ما نسمعه يرد على أنه اتهامات، لكن الكاتب بتجربته قدم نماذج عدة تستحق الوقوف عندها، وخاصة في مراحل إعادة بناء المجتمعات، التي تشكل معاول هدم فيها إن لم يتم التنبه إليها:
إنجاز المشروعات العلمية من جهات محددة مقابل مبالغ مالية، ودون أن يكون للطالب أي إسهام فيها، ولو رغب الطالب في أن يقدم جهده يجد عوائق من أجل الحصول على العوائد من إنجاز العمل نيابة عنه.
الفساد الأكاديمي الذي تمثل في عدد من الأساتذة الذين يفرضون على طلابهم الموفدين مبالغ يتم اقتطاعها من منحاتهم التعليمية مقابل مساعدتهم وإنجاز معاملاتهم والموافقة على أبحاثهم.
– تعامل المجتمعات في الاتحاد السوفييتي مع الطلبة العرب عامة على أنهم أبناء المجتمع النفطي الغني، وبأنه عليهم أن يدفعوا مما يتقاضونه، وهو كثير حسب رأيهم لهم، ولا يميز أحدهم بين طالب وآخر والبلد الذي جاء منه.
عمل عدد من الطلبة غير قليل في التجارة أو تصريف العملات في تلك الحقبة، إذ لم يعد الطالب معنياً بالعلم والتعليم، وهذه الصورة صارت معروفة لدى المجتمع السوفييتي، ويتعامل مع الطالب وفقها.
هذه الممارسات وسواها لم تكن لتصل إلى المستوى الروائي لولا مرحلة البيروسترويكا وغورباتشوف التي جعلت هذه الممارسات طافية على السطح وطبيعية، وإن كان كل واحد يطلب عدم الحديث فيها أمام الآخرين!!

الفوضى والعصابات
تشهد مراحل التحول في المجتمعات تغيرات خطرة على مستوى المجتمعات، ورواية (سرير من الوهم) تقدم صورة معايش لمجتمع كان منضبطاً إلى درجة قصوى، ولكن هذا الانضباط القسري انهار أمام الدولار وسطوته وإغرائه، وظهرت أمراض الأفراد التي تمثلت في شخصيات انتهازية تأخذ الامتيازات لنفسها وللمحيطين بها مثل الشقق وتأجيرها والاحتفاظ بالأفضل للمتنفذين، والقدرة على ممارسة أي شيء، والحصول على كل شيء بالمقابل المادي، وقد جاء في مفاصل عديدة على المشروبات والسجائر والدولارات وسواها.. وهذا الفساد أدى إلى ظهور المافيات والعصابات التي تنقلها الرواية بصدق وتأثير يغير من محور الرواية:
تجارة المخدرات وانهيار المنظومة القيمية.
تجارة الرقيق والدعارة، التي لم تعد تجارة اختيارية في ظل الفوضى، بل صارت تجارة إجبارية تقع تحتها الفتيات، سواء كن ممن امتهنت إحداهن الدعارة، أم لم تكن، وتخضع الواحدة لسلب ما جنته وربما قتلها، لأن تجارة الدعارة في الفوضى خضعت إلى مفهوم الشبكات والعصابات، وهذا ما تتعرض له إحداهن وهي تهرب من مكان إلى آخر والعصابات تطاردها، وهذه العصابات هي من المتنفذين والمسؤولين الذين تحول دورهم إلى المتاجرة بكل شيء.
السيطرة من عصابات المسؤولين والمتنفذين على مقدرات الأحداث والناس وإخفاء الحقائق من خلال ممارسة القتل، وهذا ما تعرضت له أولغا وهي المحققة وابنة الاتحاد السوفييتي عندما أرادت كشف الحقائق وممارسة دورها في التحقيقات، فكانت النتيجة العثور عليها مغتصبة منهكة، والحقيقة ترافقها وكأنها تمثل منظومة البلد المنتهك المغتصب!
(سرير من الوهم) رواية عن المجتمع الذي كان، وتحول بلحظة من زمن إلى مجتمع منتهك تسيطر عليه العصابات والمافيات، وتحدث فيه كل أنواع التجارة الممنوعة التي تستلب الإنسان حقه في الحياة، من مجتمع منضبط ينادي بحق الإنسان إلى مجتمع لا يترك للإنسان شيئاً، وهذه الرواية التي كتبها معاصر معايش لما جرى من الممكن أن تعطينا رواسم المرحلة المقبلة في كل مجتمع تحل فيه الفوضى العارمة.. وكما بدأت فإن هذه الرواية تكتسب أهميتها في هذه الطبعة من أنها تصدر وسورية لا تزال تقاوم في وجه التحول إلى مجتمع مماثل، فهل نقرأ ونستفيد؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن