«التموين» تستخف بعقولنا
| د. عابد فضلية
إن تصريحات وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بخصوص الأسعار الجديدة للخبز السياحي والكعك غريبة ومحيرة ولافتة، فبخصوص القول إن زيادة الأسعار لمواد الخبز السياحي والكعك التي وردت ضمن نشرة الأسعار الصادرة عن مديرية التجارة الداخلية بدمشق غير معمول بها وما زالت الأسعار لهذه المواد على حالها ولم يطرأ عليها تعديل رسمي؛ نسأل: كيف يمكن للوزارة أن تقول إن هذه الأسعار لم يطرأ عليها تعديل رسمي وغير معمول بها رغم ورودها في نشرة الأسعار الصادرة عن المديرية المختصة في الوزارة نفسها؟
والاعتراض هنا ليس على السعر القديم أو السعر الجديد الأعلى، بل على هذا التناقض الذي تقع فيه وزارة مهمة في حكومة تعمل في ظروف أزمة، وعلى الإرباك الذي تتسبب به في السوق، سواء للمستهلك أم للبائع، وبالتالي ليس التجار فقط من يخلقون الفوضى والإرباك في السوق.
وبالنسبة لأسعار هاتين المادتين الغذائيتين، فيتم الحديث عن نسبة زيادة تتراوح بين 25 إلى 40% وذلك بالمقارنة مع نشرة الأسعار الماضية الصادرة منذ شهرين، والسؤال هنا: هل ازدادت أسعار مستلزمات إنتاج المادتين خلال هذه الفترة القصيرة بهذه النسب العالية؟ أم إن أسعار النشرة السابقة لم تكن موضوعية ومنصفة للمنتج؟ والجواب الصحيح في كلتا الحالتين لا يُشير إلى موضوعية عمل الوزارة.
أما عن الأسلوب الذي قررت أن تلجأ إليه الوزارة في تسعير الخبز السياحي والكعك، ألا وهو أسلوب التجريب والحضور المباشر على عمليات الإنتاج ورصد وتسجيل جميع نفقات وتكاليف الإنتاج الحقيقية، فنشير إلى أنه إبداع يستحق تسجيله باسم وزارة التجارة كبراءة اختراع، باعتبار أنه ليس له مثيل في أي دولة من دول العالم، على الأقل من حيث الآلية التي سيتم بها هذا التجريب، وعلى الأخص من حيث المستوى الوظيفي والإداري الحكومي الرفيع لمعظم أعضاء اللجنة التي ستقوم بالتجريب، وبالتالي لا أتصور كم سيسعد المواطن ويبتهج عندما سيلمس هذا الاهتمام من موظفين حكوميين كبار بحضور تجربة تصنيع خبزه وكعكه شخصياً، لغاية حمايته بتحديد أسعارها العادلة، تاركين مكاتبهم وبريدهم واجتماعاتهم وجميع شؤون الوزارة ليتفرغوا عدة ساعات وربما لأيام لهذه المهمة.
وبخصوص نجاعة أسلوب التجريب للتمكن من تسعير الخبز السياحي والكعك، فهذا الأسلوب عقيم وغير ناجع على الإطلاق، ولن يأتي بالنتيجة العادلة والموضوعية التي تتوقعها الوزارة، حيث إن عناصر التكلفة الحقيقية للإنتاج ترتفع أو تنخفض بحسب العشرات من العوامل، منها حجم المنشأة وكمية الإنتاج، موقع المنشأة وقربها أو بعدها من مصادر المواد الأولية وأسواق تصريف الإنتاج وخدمات البنية التحتية، وبحسب مستوى الأجور والإيجارات في كل محافظة ومنطقة وحي، وبحسب يدوية أو آلية إنجاز العمل الإنتاجي، ومستوى تنظيمه.. وغير ذلك من العوامل الأخرى، وبالتالي فإن السؤال هنا: ما المعايير التي تعرفها وتريد اعتمادها اللجنة الوزارية التجريبية لتحديد السعر النهائي بناءً على التكلفة الحقيقية للإنتاج وخاصةً أن الوزارة تريد -بناءً على هذا التجريب- إصدار تسعيرة موحدة تُعتمد في مختلف مديريات التجارة الداخلية في جميع المحافظات!
لو أصرّت الوزارة على اعتماد أسلوب التجريب لغاية التسعير، أفلا يجب تعميم هذه التجربة الفريدة من نوعها لتسعير الفلافل والمتبل والبرغل والكولا والمناقيش والبقدونس.. وغيرها المئات من السلع، وبالتالي نرى أن على الوزارة أن تستعد لتشكيل المئات من اللجان، على مدى مئات الأسابيع القادمة.
كما نسأل: هل كان التسعير خلال عشرات السنين الماضية لمئات السلع والمواد اعتباطياً وعشوائياً، ما اقتضى من الوزارة إيجاد طريقة التجريب الجديدة؟ أم إن هذه الطريقة الجديدة هي الأسلوب الاعتباطي والعشوائي؟
وبالنتيجة، ما تقوله وزارة التجارة الداخلية، وما تريد اعتماده بخصوص التجريب لغرض التسعير، هو هروب نحو الأمام في إدارة شؤون الاقتصاد والعباد، وهو بالوقت ذاته استخفاف بعقل المواطن السوري الذي تتراكم في تلافيف دماغه إبداعات وحضارات عمرها عشرة آلاف سنة على الأقل، ولن يُقنعه هذا التجريب ولو تم تشكيل عشرات اللجان لتسعير آلاف السلع.
أستاذ بكلية الاقتصاد- جامعة دمشق