ثقافة وفن

الكلمة والزمان والمكان

| د. علي القيّم 

قال محدثي: على الرغم من مرور نحو 45 سنة على عملك المستمر في المديرية العامة للآثار والمتاحف، ووزارة الثقافة.. أراك ما زلت تواصل طعام الإفطار، والتجوال في حارات وأزقة دمشق القديمة، والسير في الشوارع بلا كلل أو ملل، تسلّم على هذا، وترد السلام على ذاك، وتربت على خدود الأطفال وتلاعبهم، وتعتني بالأزهار، وتزاول التمارين الرياضية، وتسمع الموسيقا القديمة والحديثة، وتتواصل مع الناس عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وتحرص كل الحرص على أناقتك وحلاقة ذقنك يومياً، حتى في أيام العطل والأعياد الرسمية. وتقوم بتلبية دعوات الأصدقاء، وتدعوهم بالمقابل، وتتواصل مع كل جديد في عالم السينما والمسرح والتلفزيون والفنون الجميلة والكتاب.. ألم يتسلل إليك مرض الكآبة والملل، وتعتريك عوارض الزهايمر والخرف، كما حدث لكثير ممن نعرفهم ونلتقيهم من الأصدقاء والزملاء!
قلت: من يعمل بجد ونشاط، وحيوية وألق وتواصل مع نتاجات الأدب والعلم والمعرفة.. من يدخل العشق إلى قلبه وروحه ووجدانه وعقله، لا يصبه الملل، ولا يقترب منه الزهايمر.. أنا أحافظ على نضارتي الروحيّة، بالحماس والحيوية.
الأمل بالمستقبل المشرق يدفعني إلى العمل المتواصل، كي لا يتجمّد القلب، وحتى نبتدع فجراً مشرقاً حافلاً بالأحلام الوردية.. من عادتي ألا ألوح بيدي للأمور العابرة، ولا أعض بالنواجذ على ما سيأتي، ولا أقاسي الأمرين مما سيحضر.. كنت وما زلت أستطيع أن أبعد نفسي من خداع البصر… وجداني ما زال ينام قرير العين… أقوم بعملي كل يوم، بدأبٍ ومن دون سأم، حتى لو لم يحالفني التوفيق.. أقوم بكل ما أقدر عليه من خدمة للناس.. لم أغلق بابي في وجه أحد، ولم أتردد مرة واحدة في مساعدة من يقصدني، وشعاري الدائم «لا تستحِ من إعطاء القليل..» ولا «تنتظر المعروف من حاسد» و«العمر أقصر من أن نضيعه في الخصام« و«رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي».
قال محدثي: في البدء كان الكلمة.. فما أنت إن لم تكن الكلمة، التي تتعامل معها منذ نصف قرن؟!!
قلت: الكلمة هي التي تفسّرني وتكشف عن ذاتي، ومدلولات معرفتي وخبرتي… كنت وما زلت أبحث عن حجرها الكريم… على ضوئها الساطع… عن عطاءات وفتوحات الشعر والشعراء، وإبداعات الأدب والفكر والفلسفة، وأجنحة الرؤيا، وأخبار المتنبي والمعرّي وجبران وجحيم دانتي وهوميروس، وشكسبير وبودلير ورامبو وكافكا والسياب والجواهري… الكلمة هي التي أعطتني هوية ومصداقية، هي التي تفتح وتفصِّل وتصيب وتُسكر وتُسحر.. الكلمة هي فصل ووصل.. هي الأنا والهو.. هي الهناء وذلك الانتظار الفاقد الذاكرة، والموعد الذي بلا تاريخ، والعام الذي هو كل يوم عام الفيل… هي التي من خلالها يخضرّ بأسنا، ونتنفس، ونحدّق في النهايات التي لا تأتي.. هي النظرة التي تبدأ منها الحكاية، والمحطّة التي ننطلق منها نحو آفاق شاسعة لا حدود لها، ونحو آمال عريضة لا ضفاف لها… هي التي بنينا منها قصوراً، وسوّرناها بحدائق من نسيج الخيال.. هي التي علمتنا أن الحياة أوسع من أن نخضعها لفكرة محددّة.
قال: تكتب دائماً عن التراث والآثار والزمن الغابر، وكأن الحاضر لا يغريك ولا يحرك مشاعرك وخواطرك؟!
قلت: بكل أسف، زمن الربيع العربي، وعبث التراجيديا العربية من المحيط إلى الخليج، والخراب الذي يلاحقنا في كل مكان.. في زمن الحرب والقتل والدمار والإرهاب.. أهرب إلى التاريخ أبحث فيه عن مجد قديم أسترد به إنسانيتي المهدورة، وإحساسي بالحياة… في عالم المتغيرات والأحداث المتسارعة، هزلت القيم والأفكار والمواقف.. العاقل من عاش بجسده، وسط هذه الأشياء المخجلة، وانتزع قلبه ووجدانه ليسكن زماناً آخر… ومن حق كل إنسان أن يختار زمانه كما يقول الشاعر المصري فاروق جويدة.
قال: كيف تقيّم تاريخ سورية؟!
قلت: أرفض أن أقسّم تاريخ سورية إلى فترات زمنية… تاريخها متكامل… الحضارة فيه، لم تنقطع منذ مليون سنة وحتى اليوم… هو تاريخ فريد… غني، متنوع… أعظم ما فيه ذلك التنوّع الفريد…. في كل ما كتبت عن هذا التاريخ لم أقع فريسة أهواء أو «أيديولوجيات» أو أفكار محنّطة، وأجمل ما في سورية هو وحدة شعبها.. لقد تعاملت مع هذا التاريخ باحترام وتقدير ونزاهة وأمانة، ومارست حقي في البحث عن الآثار برؤية وشمولية واسعة المدى، وهذه غاية لا يدركها إلا العاشق الولهان بأرض وحضارة بلاد الشام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن