من دفتر الوطن

شكراً أيتها السينما

| حسن م. يوسف 

عندما دخلنا، المرحوم أبي وأنا، إلى سينما الفردوس في جبلة قبل أكثر من نصف قرن، لمشاهدة فيلم (جميلة بوحيرد) للمخرج الكبير يوسف شاهين، كنت ولداً ريفياً نحيلاً يتلمس ملامح الحياة والمدينة والعالم، وما إن أطفئت أنوار الصالة حتى ملأني نور السينما الأخاذ وقبل أن ينتهي الفيلم كان هذا الفن الساحر قد احتل في نفسي مكانة الحب الأول بين الفنون واستولى على كياني مرة واحدة وإلى الأبد. وعندما انتقلت إلى جبلة لمتابعة دراستي الإعدادية كنت في ليال كثيرة أفضل أن أتعشى فيلمين دفعة واحدة على أن آكل سندويشتين من فلافل أبو حطب الشهيرة! إذ كان تفويت الوجَبَات وإهمال الواجِبَات أمراً هيناً بالنسبة لي، أما تفويت عرض فيلمين دفعة واحدة فلم يكن يحزُّ في نفسي وحسب، بل كان ينشرها طولاً وعرضاً بمنشار الخشب!
أثناء العرض السينمائي، كنت ولا أزال، أحس أنه ثمة ضوء آخر غير الذي يتراقص على الشاشة، نور خاص بي، يضيئني من الداخل ويؤنس غوصي في مياه روحي الحميمة الغامضة، كما يشجع شهوتي على تلمس أحلامي في قاع الزمن!
في عتم الصالة أجد نفسي على شفير عالمين ؛ عالم الواقع الصلب وعالم الحلم النوراني الرهيف. أجد نفسي وسط الآخرين ومعهم، ومنفرداً عنهم بحقيقة نفسي. أثناء العرض يستيقظ في قلبي ضوء آخر، يُحَوِّل الصور إلى بشر أستنشق عطرهم وأشعر بخوفهم وأبكي لشقائهم. وتحت ضوء جهاز العرض أمتزج أنا والناس المحيطون بي بالصور، فأقوم بعملية تسلل مثلَّثة، إلى داخل الفيلم، وإلى داخل روحي وإلى داخل الحلم الجماعي الذي يحياه كل واحد ممَّن حولي بطريقته الفريدة الآسرة!
لست أدري أين يكمن هذا السحر المركب الذي أعيشه في السينما، غير أن أكثر ما يثيرني في العرض السينمائي هو طبيعة حضور الآخر فيه! فهو قريب-بعيد. قريب بحيث يمكنني أن أسمع أنفاسه إلى جواري، لكنه بعيد محجوب بالعتم عني بحيث لا يشوش أي منا خصوصية الآخر وهو يعرض فيلمه الخاص به على شاشة روحه!
ها أنذا أجلس في أحد صالونات فندق السميراميس أجري حواراً مع رئيس لجنة تحكيم مهرجان دمشق السينمائي الأول عام 1979الروائي القرغيزي الكبير جنكيز إيتماتوف وبيننا، يترجم لنا، المخرج الذي كان شاباً آنذاك، ريمون بطرس… وهاهو شريط العمر يمرق كشعاع هارب تزينه آلاف اللحظات البهيجة التي أمتعتني السينما بها على مدار أكثر من نصف قرن من الحب.
لعل الوفاء هو أجمل ما في المهرجان الثالث لسينما الشباب والأفلام القصيرة الذي يقام هذه الأيام في دار الأسد للثقافة والفنون فقد أهدت إدارة المهرجان هذه الدورة لذكرى فقيد السينما السورية المخرج الكبير مروان حداد الذي عرفتُه إنساناً دمثاً ومخرجاً ومترجماً متمكناً كما خبرت إدارته الحصيفة عندما عملت تحت إشرافه كرئيس للمكتب الصحفي في مهرجان دمشق السينمائي أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
لسنوات طويلة كنت أحسب مخطئاً أن كلمة مهرجان لها علاقة بحالة الهرج والمرج التي تسود أثناء الفعاليات الجماهيرية، ولكم أن تتخيلوا حجم سعادتي عندما اكتشفت بالمصادفة أن كلمة مهرجان تعني (عشق الروح) باللغة الفارسية! فعشق الروح والسينما يليقان ببعضهما.
شكراً أيتها السينما. شكراً يا «عشق الروح» السينمائي، فأنت تليق بالشباب وهم يليقون بك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن