ثقافة وفن

ما بعد الأخير من المشهد

| إسماعيل مروة

قرأت زاوية لـ د. نبيل طعمة بعنوان «المشهد الأخير» وحين قابلته لم أناقشه فيها لأنها أثارت لدي شؤوناً وشجوناً لا يتسع الحوار لها، وتحتاج إلى بيان وشرح وتفصيل، فبعد أن قرأتها وقبل النشر أثارت فيّ أمنياتي وقراءاتي، ومن واقع الاختصاص في العلوم الإنسانية والأدبية كنت قد قرأت شيئاً عن النقد وما بعد النقد، عن البنيوية وما بعد البنيوية، وعن التفكيكية وما بعد التفكيكية، وقرأت شيئاً عن الدين وما بعد الدين، وعن النظرية وما بعد النظرية.
ونتيجة هذه القراءة كنت دوماً أرقب مرحلة ما بعد، لأن هذه المرحلة هي الأهم والأكثر خطورة في أي جانب أو علم.
أتمنى أن يكون المشهد الأخير كما كتب الصديق، وأتمنى أن تسدل الستارة في هذا العمل العبثي المجنون كما رأى، فالمجلس اكتمل للشعب، والإجراءات قائمة على قدم وساق، وما من أمر طارئ على المشهد الأخير! ربما بدافع عدم معرفتي واطلاعي يتملكني الكثير من الخوف والتوجس إزاء المشاهد الأخيرة وما يتبعها، فأنا لست مطلعاً ولست على صلة بأي أمر، وكل ما أقوم به في رحلتي العلمية والمهنية هو قراءة الأمر، واستنباط ما يمكن أن يكون وفق المقدمات والسيرورة التاريخية، وعندما أقرأ هكذا أؤمن بأن الحكم على المشهد بأنه المشهد الأخير هو من باب الأمنيات وحب الوطن، إلا أن الحقيقة التي أخشاها تكمن في مفصلين:
الأول: خاتمة المشهد الأخير، فهب أن المسرحية ليست إغريقية تتدخل فيها الآلهة لإيجاد الحلول المناسبة، وهي ليست كذلك حتماً، فما بعد الرسالات، وما بعد العلم والتقانة وضعا حدوداً فاصلة وقاسية بيننا وبين الإغريق وتعاطيهم.. فمسرحيتنا صديقي ليست إغريقية، فهل تكون رومانية، وختام المشهد يكون بمصرع الشخصيات التي اختارها الملوك لأداء الأدوار على الخشبة، ويتم استبدالهم في العرض القادم بحكم الضرورة لأنهم ماتوا ورحلوا؟ وإذا كان الأمر كذلك كم من الممكن للمشهد الأخير وخواتيمه أن يستهلك من أرواح الدراويش والعامة؟!!
سؤال مشروع وأنا أسأل عن المشهد الأخير إن كان أخيراً حقاً، ولم يكن الأمر مجرد حلم مخلص للخلاص من هذا المشهد ومغادرته.. إضافة إلى سؤال غاية في الأهمية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا المفصل: متى سيعاد العرض القائم على الدم؟ وهل هناك عمل آخر أو عرض آخر لا يستغني عن هذا المشهد الأخير الذي لم نكن نتخيله في أحلامنا؟! العرض القائم على مقولة خطيرة لخصها نزار في بيت (قيمة الإنسان ما أحقرها) زعموه غاية وهو وسيلة.
الثاني: ما بعد المشهد الأخير، لا يكون المشهد الأخير أخيراً لكاتبه أو مشاهده إلا إذا كانت حياته مرهونة بالعرض، ومن المؤكد أن أياً منا لا يرغب في أن يكون المشهد الأخير أخيراً بالنسبة له، كما لا يرغب في أن يغادر الدنيا ليكون الحكم جازماً بأن مشهداً كهذا هو الأخير.. فماذا بعده؟ هل سيعمد المؤلف إلى إرضاء الجميع بعد ذلك، ويوقف مشهد القتل والدمار والخراب والدم؟! وهل يملك أحدنا القدرة على تقرير هذا الأمر، علماً بأن النص بكل مشاهده من عمل كاتب محترف لا علاقة لنا به؟
إن ما أثاره المشهد الأخير زاوية وفكرة في ذهني أكثر من أن أحصيه، وأضخم من أن أحيط به، خاصة أنني هاوٍ للفن والمسرح، فقرأت الكثير، وحضرت الكثير، وكنت آخذ على الكتاب وصناع العمل أنهم يعمدون إلى حلول ساذجة في أغلب الأحيان لا تحترم عقل القارئ أو المشاهد أو المتابع.. وغالباً ما يرغب المتابع في أن يكون المشهد الأخير فتحاً كاملاً للستارة، وإلغاء تاماً للكواليس، وسحقاً لدور الكومبارس الذي لا يمل إعادة جمل حفظها بغية حفنة من النقود والمصالح.
ألا ترى أن الأهمية الكبرى في خواتيم المشهد الأخير، وفيما بعد المشهد الأخير؟!
إضافة إلى أن المشهد الأخير في المسرح والحياة، وفي كل جانب هو ضرب من الخيال والأمنيات، فبعد كل مشهد يوجد مشهد، وما من مشهد أخير إلا بمغادرتنا لهذه الحياة، ومن هنا تأتي مخالفتي لفكرة المشهد الأخير، فهو أمنية لدى كاتبه، سواء كان في زاوية أو رواية أو مسرحية، والأمنية لا تتحول إلى واقع.. وكذلك في الأعمال الأدبية خلدت تلك الأعمال التي تترك النهاية مفتوحة أمام القارئ، ومن حق القارئ أن يضع التتمة التي يشاء، والتي يريد، والتي يتمنى.. ويخطر ببالي أن من يقرر المشاهد وعددها، ويكتبها، ويضع عبارة المشهد الأخير هو محض دكتاتورية على القارئ والمشاهد والمتابع، إذ يسلب هذا من المشاركة الحقيقية في صنع النص، ومشاركة الحياة، فالقارئ لا يريد إسدال الستارة، ويرغب في أن يرى ما بعد المشهد الذي اختاره الكاتب.. وفي العلوم الإنسانية والنقد أغلب ما يسترعي الانتباه، ويسبب الإرباك والثورات الفكرية هو (ما بعد) فالحداثة أمر وبناء، وما بعد الحداثة فعلت الأفاعيل، وغيّرت، والتفكيكية أرست معالمها، ولكن ما بعد التفكيكية لم يترك شيئاً، ولنا أن نقدر قيمة (ما بعد) بأن هذه تركت أثرها ليس في الشعر والنثر والنقد، وإنما وصل أثرها إلى بنية المجتمعات، وحتى الكولونيالية التي تجنح إلى الفكر والسياسة كان لها ما بعدها، وما من أحد له علاقة بالفكر والسياسة لا يعرف ما فعلت الكولونيالية وما بعدها في البنية السياسية والفكرية، بل في بناء الدول والأنظمة وتقسيمات العالم.
قد تكون فكرة المشهد الأخير أو عبارة المشهد الأخير وراء دفعي للبحث المطول، وإن كان ثمة من كلمة، فإنها تتعلق بالرفض لتعبير الأخير ما دمنا نتحرك على هذه الأرض، فكل أخير بعده ما بعده، لذلك يجب أن نعمل على أن يكون ما بعد ما نتوهمه الأخير غير ما قبله فهل نفعل؟!
مشهدية مروعة عشناها في فصول طالت واستطالت، هل بإمكاننا أن نلقي الستار عليها بهذه البساطة؟ إن ما شهدناه في هذه المشهدية تجاوز المسرح الروماني، وتبرأ منه الإغريقي، و«أوفيد» نفسه أعلن براءته مما يرى، وتحولاته لم تكن قادرة على استيعاب ما في المشهدية من عنف ودمار وقتل.
لنجهز ما بعد المشهدية، لعلنا نصنع مشهدية مختلفة في تفاصيلها، تصل إلى أعماق الإنسان ووجدانه، وتكون في خدمته.. لعلنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن