الحكومة والحوكمة
| د. عابد فضلية
تتساوى حروف الكلمتين في عددها وتتشابه في نوعها، إلا أنها تختلف في ترتيبها لتفضي بالمحصلة إلى معنيين متباينين، الأول هو (الحكومة) أو (الحاكمية)، أي السلطة التنفيذية، والثاني هو (الحوكمة)، وسنُعرّفها لاحقاً. وهناك احتمالان لعلاقتهما ببعض، حيث يمكن لكليهما أن يَكون ويُكوّن جسداً مجازياً واحداً ليصبحا (عملاً حكومياً محوكماً)، والاحتمال الآخر أن كلاً منهما يبقى بعيداً ومنفصلاً عن الآخر، فيبقى العمل الحكومي (غير محوكم) وتبقى الحوكمة (بلا حاكمية).
والسؤال من ثم هو أي الحالتين أو الفرضيتين متجسد لدينا على أرض الواقع؟
وقبل ذلك لا بد من التعريف بمفهوم (الحوكمة)، التي تعني- فيما تعنيه- الكيفية الرشيدة، في ممارسة الحاكمية أو العمل الحكومي، الذي يقوم- أو يجب أن يقوم- على مبادئ الشفافية والعلنية والمساءلة والثواب والعقاب. كما أن من أهم مبادئ الحوكمة اعتماد- أو ضرورة اعتماد- الجهات الحكومية في خلفية عملها على فلسفة الشراكة والتشاركية مع المواطنين أصحاب المصلحة، وعلى الوضوح والشفافية والموضوعية في الأداء، وفي مسوغات وغايات اتخاذ القرار الحكومي المتعلق بمعيشة المواطن.
و(الحوكمة) في وجهها الآخر تعني تحمّل المسؤولية، كما تعني أن سياسات وقرارات وإجراءات الإدارة الحكومية التنفيذية متناغمة، متسقة منسجمة ومتماسكة، وأن المصلحة العليا والعامة هي الفيصل في قاموس عملها، وأن لا مراعاة إلا لمصالح وصالح الأغلبية المستفيدة من المواطنين.
بالمحصلة، وللإجابة عن السؤال أعلاه، فيما إذا كان عمل الجهات الحكومية (محوكماً) أم (غير محوكم)، يمكن أن نسوق مثالاً واحداً مما لمسناه خلال الفترة القصيرة الماضية.
فمنذ عدة أيام نشرت صحيفة «الوطن» مقالاً ورد في جزء من عنوانه: «بعض أعضاء الحكومة يسهلون عمل رجال أعمال لتحقيق كسب غير مشروع» من خلال مساعدتهم على الاحتكار و«عدم إنفاذ قانون المنافسة»، علماً أن هذا المقال «موثّق» بتقرير صادر عن الهيئة الحكومية للمنافسة ومنع الاحتكار، والذي جاء فيه أيضاً أن السوق السورية «غير تنافسية بسبب قرارات حكومية»، وأن الارتفاع الكبير في الأسعار «قد ينتج عن ممارسة الاحتكار من بعض التجار».
على الفور، وفي اليوم التالي، وعبر صحيفة رسمية، انبرى أحد كبار موظفي هذه الهيئة الحكومية المعنية بمنع الاحتكار ليدافع عن الاحتكار، وليقلل من شأن ما جاء في التقرير الصادر عن هيئته، بالقول: إن «ارتفاع الأسعار ليس بالضرورة نتيجة ممارسات احتكارية، وإنما قد يكون نتيجة أسباب أخرى..».
فإذا كان ممثل الجهة الحكومية الرسمية التي من مهامها منع الاحتكار وتجريم مرتكبيه هو ذاته من يُحاول أن يبرئ هذا الاحتكار وكأنه يدافع عن مرتكبيه، ولو بصورة غير مباشرة، فمن الذي سيمثل المواطن وينبري للدفاع عن مصلحته؟
يا ليت هذا الممثل، وأقصد ممثل الجهة الرسمية، قال إن الاحتكار ليس السبب الوحيد لارتفاع الأسعار، لكان أقنعنا بما يقول، ولكنا تأكدنا بأنه قول حيادي وبريء، وليس غير ذلك. أما المؤكد بخصوص التعامل غير الحيادي وغير البريء مع مسألة الاحتكار هو ما ورد في المادة (9)، من قانون هيئة المنافسة ومنع الاحتكار رقم (7) لعام (2008)، والتي نصّت- بما معناه- على أنه «لا يُسمح لجهة خاصة واحدة أن تسيطر على أكثر من (30%) من سوق سلعة معينة»، ونحن بدورنا- وكما يفهم الأمر أي مواطن سوري- نفهم أن هذا القانون يسمح بأن تسيطر جهة واحدة على (29%) من سوق سلعة معينة، أي إن هذا القانون شرّع احتكار القلة الذي يعاني منه الجميع في سورية منذ سنين طويلة، عندما سمح لأربع جهات (كل جهة 25%) أن تسيطر على سوق سلعة ما، بعد أن كان الاحتكار وأهله- وما زال- بغيضاً عُرفاً ومكروهاً شرعاً.
وبالمحصلة، هل أصبح الجواب عن السؤال المطروح واضحاً؟ أليس عمل بعض الجهات الحكومية غير محوكم؟ لا تستحق هذه الجهات منا أن نتضرع لها بالدعاء: (ربنا لا تؤاخذها بما تقول، واغفر لها عما تفعل).
أستاذ بكلية الاقتصاد- جامعة دمشق