الداعشيون يقدّسون العُنف
صياح عزام
العنف ليس ظاهرة جديدة، فالقتل الجماعي والاغتصاب والاستعباد وتجنيد الأطفال كلها جرائم غالباً ما تحصل في الحروب، طبعاً، مع تفاوت في الفظاعات من حيث اتساعها وبربريتها. ومن أمثلة هذا العنف في التاريخ «الخمير الحمر» الذين وثّقوا إعداماتهم المنهجية، و(النازيون) الذين ابتكروا آلية بيروقراطية وعلمية للتصفيات الجماعية، و«سوهارتو» الذي أطلق العنان للعنف الجماعيّ في أندونيسيا.
ولكن لعنف «داعش» الإرهابية خصائصه التي تكمن في أنه لا يستهدف الضحية بذاتها بقدر ما يستهدف الجمهور، ثم إنه عنف مُعلن لا يسعى للتستّر، وإنما العكس، إذ إنه بقدر ما يستهدف الضحية بذاتها، يستهدف إخضاع وامتهان وقتل الرغبة في المقاومة لدى جمهور أعرض. لذلك فهو يتهافت على الصورة ويتفاخر بقدرته على التحكم برقاب الناس عبر مشاهد يتلذّذ بصناعتها وإخراجها عقلٌ شرير لا يخلو من الدهاء.
من المفارقات الداعشية، أنها تُنكر أي حصانة للضحية، فالضحية هي وسيلة لدى داعش، وبقدر ما تكون الضحية عاجزة ومستسلمة أو حتى بريئة، تغدو الرسالة أشدّ صدماً وأكثر اجتذاباً للملاحظة.
بالنسبة للغربيّين الذين تم ذبحهم عقب انطلاق الحملة الجوية، من صحافيين وعمال إغاثة، لم يتردّد الداعشيون في ذبحهم، أولاً لاستسهال انتقاء الضحية، وثانياً لقتل أي رغبة لدى إنسان بالتضامن مع الآخرين أو التفكير بالمقاومة. وهذا أمر مقصود، بمعنى أن العقاب عند داعش لا يستمدُّ سطوته من مخزون العنف الذي يخضع له جسد الضحية فحسب، وإنما من مشاركة الجمهور المُتلّقي للصدمة، إلا أن الشرط الأساسي لهذا النمط يكمن في تطبيقه بشكلٍ جذري وغير مساوم، فما يبرره هو الزعم بأنه يهدف لتطبيق «عدالة مثالية» فإذا طُبقت بانتقائيّة أو بتكلّؤ فقدت المنظومة العنفية كل مشروعيتها!
يدفع العنف الداعشي إلى التساؤل حول طبيعة العنف الديني، هذا إذا كان من الممكن تجزئة العنف من ناحية تفسيراته الاجتماعية إلى فئة خاصة، بحيث تنفصل الدوافع الدينية عن باقي مكوّنات السلوك العنفي. في هذا المنحى، يرى المفكر الفرنسي «رينيه جيرار» أن للدين دوراً في تقنين وتنفيس العنف المضمر في المجتمع، بل إن هذا التقنين والتنفيس من وظائف الدين الأصلية، وهو أي «جيرار» إذ يتفق مع مقولة (فرويد) بوجود نزعة عدوانية كامنة في الطبيعة البشرية، إلا أنه يخالفه في تفسير مصدر هذه النزعة. (فرويد) يقول إنها غرائزية، بينما يتحدث «جيرار» عن «الرغبة في التقليد الإيمائي» أي مشاعر الحسد والغيرة.
طقوس الأضاحي، وعبر تقديم (كبش فداء)- وإن كان هذا الفداء رمزياً- يُتيح للجماعة تنفيذ هذه العدائية الكامنة الناتجة عن حسد الأضداد لبعضها بعضاً، عبر إطلاق مخزونها العنفي على هدف شرعي. فالجسد يستتبع الرغبة بالتماثل مع المحسود فينشأ عن ذلك منافسة تقود في النتيجة إلى محاولة إلغاء الغريم المنافس، وينتج عن ذلك عدائية متبادلة… إذاً، عندما تتعطّل رمزية آلية الأضاحي يصبح العنف المتفلّت بديلاً.
إن أكثر ما يُلفت من هذه النظرية الإشكالية هو دور (كبش الفداء)، وهو بُعْدٌ يسهل إسقاطه على ضحايا داعش الإرهابية. هذا، ويُمثّل إعدام الطيار الأردني «معاذ الكساسبة» «طقساً» بامتياز، فالتسجيل الدعائي لإعدامه يُفرد جهداً واضحاً لإثبات أن الضابط الأردني يحمل ما هو أبعد من خطيئته الفردية، فهو رمز لكل الذنوب المزعومة التي تُرتكب بحق داعش، بمعنى أن السادية المُفرطة التي عُومل بها، والإعدام بكل توقيتاته، يحملان كل مكوّنات (الطقس) برمزياته (الجميع يبدو وكأنه يمارس دوراً مرسوماً لا عجالة فيه على تنفيذ القتل، فالطقس يعلو أهميةً، القائد الداعشي المجرم الذي نفّذ حكم الإعدام يشبه بلباسه العسكري كبير الكهنة، اصطفاف المقاتلين وكأنهم حرّاس المعبد، النار تتبع مساراً مرسوماً بدقة، الأناشيد، القفص الذي تكبّد القتلة عناء تشييده خصيصاً يحاكي المذبح): في هذه اللحظات يتجلّى داعش بأوضح الصور (كهرطقة)!.
إن تنظيم داعش الإرهابي ينحو عبر خطابه وآليّات عمله نحو تشكيل منظومة وهمية محدثة تُناقض الفهم الحرفي بالمعنى المجازي، بحيث تتخذ شكل بدعة مُتسلّحة بطقوسها الخاصة.
العنف يحمل أيضاً وظيفة داخلية للتنظيم تساهم في تماسكه وقدرته على الاجتذاب، وهي معطوفة على خطاب تأسيسي مُناقض للمفاهيم الدولية السائدة، كل ذلك يعني أن هذا التنظيم الفاشي الإرهابي، سيكون بحاجة دائمة لتقديم المزيد من مشهدياته الساديّة؛ الأمر الذي يُرتب عليه تكرار دوّامة العنف مع حاجة متصاعدة لمزيد من الدراماتيكية في التنفيذ.