الهروب من الكابوس!
| عصام داري
سيطول انتظارنا لأرض مستباحة، وحرية مسلوبة، ونسائم ربيعية تمدنا بأوكسجين، لأننا ببساطة وصلنا للتو إلى عصور ما قبل التاريخ، وعادت شريعة الغاب لتتحكم بنا، وباتت جهنم العنوان الرسمي لعالم اليوم.
غادرنا قطار الحضارة، واخترنا الدروب المظلمة الوعرة وسرنا حفاة الأقدام والعقول، والعقل يمكن أن يكون حافياً عندما تسيطر عليه نزعة شيطانية، وغرائز وحشية تفوق في شهيتها للدم المسفوح في الشوارع، واللحم المحترق، والأوصال المقطوعة، أكثر الوحوش ضراوة في التاريخ.
نبكي على الأطلال، نتذكر الماضي.. نقارنه بالحاضر، تتجمد المآقي كأنها لا تريد تصديق المشهد المرسوم على خريطة الوطن السوري الذي كتب عبر عشرة آلاف سنة قصة الحضارة التي لم يكتبها ويل ديورانت.
نتوقف لحظة صمت حداداً على أرواح من تركونا نعاني فراقهم ودمار وطن وحضارة وبداية نكبة جديدة، وهل بقي في أجسادنا مكان لضربة سيف جديدة أو رمية بسهم أو طعنة برمح؟ علينا أن نقف دقائق وساعات صمت على أرواحنا التي أنهكتها النكبات والمآسي وطعنات الغدر ممن كنا نظن أنه من أهل الدار، أو من إخوة الجوار.
تنسكب من عيوننا دماء حارة، بعد أن جفت مآقينا، وانتهى عصر الدموع، فالبكاء صار أنجع أسلحتنا، ونحن نعترف بعجزنا عن مواجهة المخارز التي هجمت على عيوننا من مشارق الدنيا ومغاربها، والسيوف والخناجر المسمومة التي تقاطعت في سمائنا، وعلى أجسادنا!.
تنسكب الدماء من العيون، ومن أجساد الأطفال والعصافير والفراشات، فسورية تنزف أطفالاً وفراشات، وتاريخاً، وأوابد حضارية، وتنزف قهراً وألماً وحقداً على عالم يزعم أنه متحضر، لكنه يصمت عن كل جراحاتنا وصرخات أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، والمصيبة أن الصامتين هم شركاء في جريمة استباحة وطن المحبة والسلام، وفي الحرية المسلوبة، والأرض المستباحة، والجرح النازف.
كل سورية تحولت إلى جرح ينزف، وصيحة مكتومة، ومذبح للفراشات، وإلى أرض تسحق فيها الورود والأزاهير بالأحذية، لكن حلب اليوم هي التي تتصدر المشهد، هي كل سورية وكل دماء السوريين، هي الشامخة اليوم لتعطي الدرس في الصبر والقدرة على التحمل.
منذ عام مضى كتبت كلمات معدودات فقلت فيها: دعوا المحطات للمسافرين، والأغصان للحمائم والعصافير، والموانئ للبحارة، والأوتار للموسيقيين، والقصائد للشعراء، والبنادق والخناجر للقتلة، والمعاول والسنابل للفلاحين، والحب للعشاق، والقبور للفقراء، والكراسي لتجار الكذب، والأسواق لتجار الرقيق والقتل البطيء.
اتركوا كل شيء واتبعوا قلوبكم الدافئة فهي طريق الخلاص بعدما سدوا في وجوهنا كل الدروب، وأغلقوا الأبواب والنوافذ ولغموا الطرقات والمدن، وحاولوا اغتيال حتى الآمال والأحلام فينا، لكن شمس الحب مشرقة وإن طال الزمان، هكذا كتبت منذ عام، واليوم أكتب لأقول: دعوا سورية للسوريين، وارحلوا أيها العابرون، عن قلاع سورية وترابها ومدنها، ارحلوا عن حلب وتذكروا أنها المدينة التي قال فيها أبو العلاء المعري بيت الشعر الخالد:
حلب للوارد جنة عدن
وهي للغادرين نار سعير
ولن يطول الانتظار.