اقتصاد

ليست سياسة نقدية

| علي هاشم 

ما انبرى سوريان اثنان للحديث عن تقهقر سعر صرف الليرة، إلا وكان التهريب ثالثهما، رسميون وتجار وصناعيون وشركات صرافة.. باتوا جميعاً يتناولون الأمر كسبب جوهري لما لحق بالنقد الوطني من خسائر.
قبل شهرين، صاح وزير المالية تحت قبة البرلمان غامزاً من قناة ميل حكومي -في زاوية ما- إلى استمرار التهريب، مطالباً -وهو صاحب السلطة المعني- بعودة السلطات الجمركية إلى الأسواق، مثيراً التساؤل عن العوائق التي ما زالت نقف سداً دون (السماح) بمكافحته؟
خلال الأيام القليلة الماضية، عزف تجار الذهب على الوتر الرخيم ذاته، وبحسب خلفياتهم المهنية، يفترض بنا أن نخضع لمعارفهم المتراكمة بقضايا العرض والطلب النقديين وفي اتهامهم للتهريب بالنيل من الليرة، قبلهم، فعل ذلك صناعيون وتجار، لا بل حتى الحكومة التي ما كان لتقليص السلطة الجمركية في الأسواق أن يمر دون موافقتها، تناولت الأمر في أكثر من جلسة.
قد يكون لأمر التهريب بعد مصلحي وطني من نوع ما، وهذا احتمال وارد حقاً، إلا أن القلق المرضي المستحكم في قطاعنا النقدي أضفى الكثير من الإرهاف لأي طلب زائد على القطع في السوق السوداء لتمويله مهما صغر حجمه، بما يتهدد البعد الوطني جدياً من طريق أخرى، فالتهريب بمختصره: اقتصاد أسود بالكامل، ونسغ حقيقي يبث الروح في سوق العملة السوداء ويعزز ترابط حلقة العرض والطلب داخلها ضمن سلسلة متكاملة متراصة المصالح تتغذى من ذاتها على حساب الليرة الوطنية من خلال حفز الفساد بين شركات الصرافة وحلقات السوق السوداء، وعبر دوره في كبح الإنتاج الوطني المرهف في جدواه راهناً، وأثره الكارثي في إنعاش الاستهلاك –عدونا اللدود- كما في كفاءة سياسة ترشيد الاستيراد ذات الأثر شبه المباشر في سعر صرف الليرة.
المعادلة السائدة في بيئة سوق النقد الوطني باتت أشبه بكوميديا سوداء، فمن يشتر اليوم دولار السوداء لتمويل التهريب يرفل بثقة مطلقة بأنه سيبيع مهرباته على دولار أعلى بكثير مما اشترى عليه محققاً بذلك ربحاً أسطورياً ضمن متوالية حسابية باتت أكثر موثوقية من جميع نظريات النقد المعروفة.
وفي الواقع، هي كذلك لأنها تتغذى على مكافحة فصامية للتهريب قوامها (منع/ تدفق)، وعلى سياسة تدخلية (مدرسية) تنجلي في النهاية عن مشهد عام تبرز فيه الجلسات التدخلية للمصرف المركزي عبر شركات الصرافة وكأنها ممول أول للتهريب بطريقة راجعة، في محاكاة لانتحار درامي بحد ورق الدولار!
الليرة راهناً تتعرض لاختبار إجهاد لم تشهده قبلاً، وعلى جهة ما أن تدرك بأن قدرتها على المقاومة تتلاشى شيئاً فشيئاً مع كل (طرقة) جديدة تنهال على صفحتها من مطرقة التهريب فوق سندان السوق السوداء.. ما يفترض بنا فعله هو (مجرد) استبدال لسياساتنا الكلامية عن الآثار النقدية التهريب وقذف (عيوبه) الاقتصادية وضرورة مكافحته.. بمكافحته!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن