ثقافة وفن

سياسة الموت الرحيم فهل هناك موت رحيم فعلاً؟ … عندما تصبح الحاجة إلى الرحيل ضرورة

| ديالا غنطوس

لا بد أن معظمنا قد سمع عن سياسة الموت الرحيم التي يتبعها كثير من الدول لإنهاء حياة مريض ما، حين يعجز الطب عن إيجاد حل لمشكلة صحية يعاني مريض منها، على أن يحظى قرار إنهاء حياته بموافقته إن كان واعياً أو موافقة أفراد عائلته كبديل، وحتى الساعة ما زال الموت الرحيم محطاً للجدل، بين الدين والعلم، بين الحلال والحرام، بين الأمل واليأس، بين راغب في التمسك بآخر خيوط الحياة وزاهد فيما تبقى من أيام لا تجدي نفعاً.
البعض يرى أن له الحق في إنهاء حياته أو حياة أحد يحبه إذا ما وجد أن تلك الحياة لم تعد تمنُّ على صاحبها بالصحة، وإذا ما استبدَّ المرض وفتك بالجسد، يوجَد المسوّغ لمهمة الموت الرحيم المتمثلة بجرعة من الموت عبر حقنة تضخ في جسم المريض، فتأخذ روحه شيئاً فشيئاً وتصعد إلى خالقها مطمئنة أن لا ألم بعد اليوم، ومن جانب آخر يقول آخرون إن لا أحد مطلقاً يملك حق إنهاء حياة أحد، فالروح لا نملكها نحن بل اللـه هو الذي يهب وهو الذي يأخذ، هو من ينفخ الروح في الجسد ويستعيدها متى شاء، وعلى هذا تباينت الآراء وتبقى سياسة الموت الرحيم مسألة جدلية كبرى لم تجد جواباً حتى اللحظة.
كما عودتنا السينما العالمية، فإنها وضعت هذه المسألة الجدلية تحت مجهر النقد، وناقشت أسبابها ودوافعها آخذة بالحسبان أبعادها ومحاذيرها وتبعاتها كافة، وهذا ما راعاه المخرج المبدع بل أوغست في فيلمه الدنماركي «قلب صامت Silent Heart» الذي أطلقه عام 2014، الذي يحوي مشاعر مختلطة ومعقدة ومؤثرة تدفعنا للتفكر مليّاً قبل إطلاق أحكامنا، تنحصر فكرة الفيلم المكتمل الأركان حول دعوة السيدة إيستر وزوجها بول لابنتيهما وحفيدهما والشابين المرتبطين بالابنتين وإليزابيث صديقة إيستر لحضور حفلة منزلية مصغّرة تقام لوداع إيستر، التي اتخذت قرارها بموافقة جميع هؤلاء بأن تنتحر في المنزل يوم الأحد خلال تلك الحفلة، وقد أتى هذا القرار إثر إصابتها بشلل في يدها اليسرى ناتج عن مرضٍ ميئوس من علاجه، وستتسارع مضاعفاته ليؤدي إلى شلل في الأطراف كافة وضمور كل العضلات وانعدام القدرة حتى على البلع، ما دفعها إلى استباق الأحداث بفكرة «الانتحار الرحيم» وهي ما زالت تمتلك بعضاً من قواها وبمباركة أفراد أسرتها. على الرغم من هذا القرار الجريء، إلا أن إيستر سيدة رقيقة جداً تتستر خلف قوتها الظاهرة، تخاف الموت مع دنو ساعة الانتحار، على حين تتباين مواقف أفراد العائلة وتختلف شدتها، فزوجها بول الطبيب وافقها بقرار إنهاء حياتها ليقينه بأن حالتها ستتفاقم سريعاً، مع أنه ترك لها فرصة للتراجع، كذلك ابنتها الكبرى هايدي احترمت قرار أمها وقبلت به على الرغم مما تعانيه من صراع داخلي ورغبة في الاحتفاظ بالأم في حياتها، أما الابنة الصغرى سانيف فيصيبها الاضطراب وتعيش النحيب لعدم استعدادها أبداً لفقدان والدتها التي تتكل عليها في أدق تفاصيل حياتها في الوقت الذي لا يمكنها الاعتماد على عشيقها دينيس المدمن على المخدرات، بينما يرى مايكل زوج هايدي أن من حق والدة زوجته أن تختار إنهاء حياتها لكنه ينأى بنفسه ويرفض إبداء أي رأي في أمر خاص كهذا، أما الحفيد المراهق فيتفهم قرار جدته مع انشغاله بعالم التواصل الافتراضي الذي يأخذ كل اهتمامه، على حين تعتري صديقتها إليزابيث مشاعر متأججة وهي تودع صديقتها التي تعتبرها جزءاً منها.
بحلول يوم الأحد، يجتمع المدعوون في المنزل، الذي يُطل عليه شبح الموت، وقد سعت إيستر لأن يكون الحفل أشبه بعشاء عيد الميلاد القادم الذي لن تكون حاضرة فيه، وسمحت لنفسها بتدخين الحشيش برفقة أفراد العائلة لخلق نوع من البهجة بُغية كسر الصمت المطبق، فنجحت بذلك وسادت أجواء الغناء والضحك، لم يفلح رفض ابنتها الصغرى ساني وبكاؤها في ثني الأم عن الاستمرار بقرارها والتراجع عنه، وينتهي الفيلم بانتهاء الحفل ومغادرة الضيوف للمنزل، بعد أن تناولت إيستر العقار القاتل من يد زوجها بول، الذي نراه وحيداً خارج البيت بعد أن انفضّ الجميع من حوله.
وكانت بوليوود قد طرحت قضية الموت الرحيم قبل ذلك في الفيلم الهندي «طلب Guzaarish» الذي أنتج عام 2010، إنما بجرعة مضاعفة من المشاعر المنسكبة، يروي الفيلم مأساة شاب وسيم أمضى 14 عاماً أسير جسده المشلول دون قدرته على الإتيان بأي حركة، اعتمد طوال تلك المدة على ممرضته «صوفيا» التي تهتم بحاجاته اليومية كافة، بدءاً من مأكله وملبسه وانتهاءً بنظافته الشخصية، حتى إنها توفر له الدعم المعنوي فتقرأ له الجرائد وتدفعه لحب الحياة والشعور بقيمته الذاتية والتغلب على إعاقته، ساعدته في الحصول على عمل كمقدم برنامج في محطة إذاعية حيث يعتمد فيه على صوته الذي لم يتبق في جسده شيء يملكه سواه، بعد أن كان أعظم ساحرٍ في ماضيه، قبل إصابته بحادث مدبَّر من صديقه المقرب الذي يغار من نجاحه، فسقط على رأسه أثناء أدائه إحدى فقرات ألعاب الخفة على المسرح ليصاب بشلل كامل، والآن بعد أن تملّكه السأم من حاله وعجزه ومن عيشه دون كرامة، وبعد عدة مواقف مؤلمة نشاهدها خلال الفيلم كان أحدها عندما حطّت ذبابة على أنفه ولم يتمكن من القيام بأي حركة لطردها، وفي موقف آخر نراه ممدداً في سريره في ليلة عاصفة، فينضَحُ السقف وتتسرب الماء لتتساقط قطرة تلو الأخرى على وجهه، ويتسلل البرد إلى عظامه حتى كاد أن يتجمد طوال الليل دون أن يشعر به أحد، وليتخلص من عذابه، قرر إيثان التقدم بطلب إلى المحكمة العليا كي تأذن له بالموت الرحيم، لكن طلبه يواجه بالرفض لأن القانون الهندي يعتبر ذلك أمراً مخالفاً للتعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية، حينئذ لم يجد أحداً يلجأ إليه سوى ممرضته صوفيا، التي انفصلت عن زوجها وتخلت عن بيتها وحلم الأمومة في سبيل الاعتناء بإيثان الذي وقعت في غرامه طوال 12 عاماً دون أن تفصح بذلك لأحد سواه، منعها عشقها من خذلانه ولم تقو على رده خائباً، فوافقت على مساعدته لتحقيق رغبته في الموت الرحيم لكي تريحه من عذابه، بذلك اكتشف إيثان مقدار الحب التي تكنه له صوفيا وطلب منها الزواج، لاقى طلبه قبولها، أقام بعدها إيثان حفل وداع لأصدقائهما وأعلن للجميع عن العلاقة الغرامية التي تجمعه بصوفيا، مصرحاً بأنه الآن فقط سيغادر الحياة دون ندم وقلبه مملوء بحبه لصوفيا، وينتهي الفيلم على صوت ضحكاته التي تعلو فرحاً.
تلك الأفلام وسواها أظهرت قبولاً وتعاطفاً مع فكرة الموت الرحيم، إلا أن المسألة تبقى شائكة ومعقدة على الصُّعد الاجتماعية والدينية والنفسية، وكل منا يراها بحسب معتقداته وموروثه الفكري، لكن المثل يقول: «لا تحكم على حالٍ لم تمرَّ بها من قبل»، فالفارق بين تقبُّل الأمر ورفضه يشبه تلك الشعرة التي تفصل بين غريزة البقاء التي تمنعنا من الاستسلام وتفضيل الموت بإباء درءاً للحظة الانكسار المحتمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن