ثقافة وفن

الصورة المشهدية والأغنية 

| أحمد محمد السح

إنّ اعتبار الأغنية حاملاً ثقافياً معرفياً ذا مضمون ورسالة يخدمان قضايا ويحققان أهدافاً لهو أمرٌ مشابهٌ لإيكال مهمة نقل البريد للعصافير، وبالمقابل فإن اعتبار الأغنية حالة ترفيهية محضة تستطيع أن ترتكز فيها لقول كل ما يقال، هو إسفافٌ في التعامل مع أداة قديمة – هي الأغنية – استخدمها الإنسان بعد قوامة اللغة، واستقامة اللسان. فالأغنية ببساطة شديدة نجمت عن التسجيع والنَّظم لمتقاربات الألفاظ، وقد كانت فتحاً في فضاء اللغة، جعل الإنسان يقول بعدها بالمشافهة، لتنتقل إلى السمع حوائجه.. التي تعمّقت فصارت مشاعره، وما يريد.
وابتعاداً عن الإيغال في أصل نشوء الأغنية مخافة الدخول بين حراب الأكاديميات وشفرات ونصال الدراسات، تجري المحاولة للنظر في التنميط الذي اعتمدته الأغنية العربية بدءاً من أوائل تسجيلاتها في تطوراتها وانتكاساتها، فالأغنية العربية عمدت إلى التسجيع وتحويل الكلام العادي المنطوق إلى كلام منظوم قيلت فيه مشاعر الحب، المباحة أو المكتومة، وهذا طبعاً في أغلب ما قيل. وقد استُخدمت في صناعة الأغنية أساليب مغرقة في البساطة لم يبرز فيها الكثير من الدلالات الفنية عند الشاعر/ مؤلف الأغنية الذي تهرّب من تنويع المثيرات الدلالية التي تستقطب المتلقي وذلك لعوامل شديدة البساطة جذرها اقتصادي يعتمد على التكسّب من شركات الإنتاج عبر سوق الأغنية الموجّه إلى الأكثرية الضعيفة الاهتمام بكل ما يحدث حول الجمال ومثيراته، وأساليبه. وهذا بدوره سار بالأغنية إلى منزلقات تشنّف آذاننا وترهق بصرنا في كل ما يحدث الآن.
وأما عن الإضاءات واللمعات في عطاء الأغنية العربية كلاماً – فلا أثير موضوع اللحن لكوني لست من خبازيه- فلقد اعتُمدت دلالات فنية يمكن تقسيمها إلى: 1- دينامية الصورة المتحركة (الأقل حضوراً). 2- الصورة المشهد (المشهد الجامد كثير الحضور). 3- جمالية اللغة وانزياحاتها (استخدمت عدداً من المفردات، اعتبرت مفردات يصعب شقّ الطوق عنها إلا ما ندر). 4- إيقاع السرد القصصي (لديه حضور لكن متقنيه قلائل). 5- الظهرات البلاغية (عادة تستخدم في الأغنية الخفيفة طباق، جناس، وسواه..).
حقيقة يعدّ البحث في هذه المصطلحات شديد الإغراق في النقدية كمن يريد تحويل حبة سكاكر بطعم الفريز إلى بستان فريز ويريد له تصنيفات وتنويعات.. إلا أن الالتفات إلى هذا الموضوع وإعطاءه بعض الجهد ربما يساهم في صحوة أصحاب الكتابة الغنائية والغناء، لأن هناك من يريد فعل ما يريد، ونحن نملك الحق في استشفاف الجمال أينما وجد.
وعادةً ما تستخدم الصورة المشهدية للهروب من المباشرة في الخطاب لفتح فضاء أوسع في النص، وهي أداة استخدمتها الأغنية في نقل الصورة الجامدة.. (القمر- الليل – النجوم – الورد…) وهي أدوات جاهزة لبنائها، والأمثلة لها كثيرة…
وهي أسلوب سهل على الرغم من أن الصورة الشعرية في النص الشعري تعدّ من أصعب مفاتيحه، فالصورة رسمٌ قوامهُ الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة، تنبثق من خلالها ذات الشاعر، وهي أداة غالباً ما تكون اتكائية في الأغنية العربية تبرز مرة أو مرتين على الأكثر في الأغنية وهذا الحضور غالباً ما يكون غير جديد على الإطلاق: مثل صورة (السهم الذي يرمي بالحب) وهي صورة استجلبت من الشعر العربي القديم، ووصلت إلى الأغنية ولم تخرج منها علماً أن كل مؤلفي الأغنية لم يعرفوا السهم ولا القوس ولا الكنانة، ولا قرؤوا عن كيوبيد أصلاً.
وما النجاحات واللفتات في الأغنية بمنكرٍ دورها، وأهمه دورها في نقل مشهد متحرك بطريقة بسيطة وذكية.. أذكر هنا أغنية «اسهار» للسيدة فيروز التي ألفها الأخوان رحباني والتي تقول فيها:
«رح فتّح بوابي… وإنده على صحابي
قلّن قمرنا زار..
وتتلج الدنيي خبار… بس اسهار»
فكمية الأفعال التي تتزاحم في هذا ألوف إضافة إلى نقل صورة الآخر من خلال (بتتلج الدنيي خبار) جعلت الصورة عبارة عن مشهد متحرك والمؤلف هو مصور لديه كاميرا فيديو لا مجرد كاميرا فوتوغرافية.. فهو يشاهد الحدث ويصفه من عدة زوايا لا بل يمكن القول إنه اعتمد المونتاج فقد حذف من الحدث ما حذف وأبقى ما أراد.
فالصورة قبل كل شيء هي تشكيل مكاني والمكان بذاته جامد وساكن، وقوة الشاعر / وهنا مؤلف الأغنية / تبرز في بثّ الحركة والحياة في المكان وجعله مكاناً زمانياً. تتمثل هذه الزمانية في رصد تتابع اللحظة للحدث المتحرك في المكان لا استغلال لقطة واحدة يتم فيها الإشارة إلى الحدث إنما نقل الحدث ما أمكن مع المشاعر والأحاسيس التي ترافق حدوثه مشاعر ناقل الحدث أو المنقول عنه الحدث وربما يكونان واحداً… وأورد نموذجاً رشيقاً مناسباً لأيامنا قليلة الحضور للكهرباء هي أغنية الشحرورة صباح «عتيمة ع العتيمة» التي كتبها الأخوان رحباني كذلك:
«مش سامع خشةّ بهالقرب… هودي وراق الـرمانة
دخلك في دعسة ع الدرب… لا تحكي صمّ صميمة»
وهنا تظهر حركة الأوراق لشجرة رمان حاضرة في المشهد السمعي المعتم بصرياً الغني سمعياً، الذي تأتيه الدعسة الغريبة والمشاعر من هذه التحركات كلها تبرز في مصطلح «صم صميمة» المغرق في المحلية الذي يدل إلى انزياحات اللغة وجمالياتها وتحديداً في الكلام العامي المحكي حيث لا يكون القاموس لك بالمرصاد. ربما يمكن الدخول في مرحلة التلاعب بالألفاظ أو استخدام المحسّنات والظهورات البلاغية واعتمادها ركيزة لبناء الأغنية كما في أغنية الفنانة لطيفة التونسية «كرهتك» التي كتبها منصور الشادي ونجتزئ منها:
«أنا اكتب بدمعي حكاية هواك
وإنت بتمحي بجرة قلم

رهان أصدقائك كسبته بنجاح
وأسراري صارت حكاية ومزاح
روح اضحك معاهم حتى الصباح
وآه م الملامة وآه م الندم »
نلاحظ التقابلات في /اكتب / و/ تمحي / و/ رهان – كسبته / و/ ملامة – ندم – اضحك/ هذه أدوات لفظية بحتة تعتمد حتى في شكلها على ما يشبه السرد القصصي والذي له حضوره اللافت في الأغنية العربية اعتمدها كثير من الأغاني على سرد حكاية بما يشبه القصة منها أغنية «قصة غريبة» للفنانة نجوى كرم أو استخدام الحواريات الغنائية كأداة للقصة والحواريات كثيرة منذ أغنية «طبيب عيون» للراحل العبقري محمد عبد الوهاب والقديرة ليلى مراد إلى ما يظهر بكثرة الآن من حواريات ربما تبدو أقل مستوى بكثير كونها تفرضها عجلة الدينار لا عجلة الحوار.
وتبرز الإشارة إلى أغنية عالية العاطفة للفنانة نوال الكويتية التي كتبها: تركي؟ والتي نجتزئ منها:
«خلنا مني.. طمني عليك
ما أنام الليل من خوفي عليك

وش في صوتي؟
ما في صوتي أي شي
كنت ساكت..
ونامت عيوني شوي
كنت أحلم بي معك
وأنت تحكي وأسمعك»
وهنا تبرز عدة أدوات في الصورة المشهدية والدلالة اللفظية والسرد القصصي وغيره، وبالفعل فإن توافر هذه الأدوات قد يحضر مجتمعاً إذا أُتي بمؤلف أغنية نقيّ الذهن والرؤية.. يستطيع التعبير عن أدواته واستخدامها بجدارة ومهارة، مع الإشارة إلى أن هناك جيلاً شاباً موهوباً يريد إحداث نقلة في الأغنية واستخدام مهارات في نحت اللغة برزت عند كتّاب الأغنية المصرية بامتياز، والشباب السوري ينهج نهجاً خاصاً في بناء أغنية شعرية ويبقى السوق الاستهلاكي ونقص ثقافة المغنين هما العائق الأبرز والأساس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن