ما أحوجنا اليوم إلى فولتير…رباه لم تمنحنا قلباً لنكره بعضنا ونحقد به ولا أيادي لنذبح بعضنا البعض
إعداد: مها محفوض محمد:
فيلسوف فرنسا الأشهر والأديب الساخر الذي وصل بسخريته ضد الظلم والتعصب إلى وجدان الناس وأدى رسالة كبرى في إطلاق حرية التعبير وحرية العقيدة والعدالة والتسامح فكان أكبر رمز للتنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا كما كان من أكبر أعداء التطرف الديني.
فولتير الذي يعد من أهم منظري الثورة الفرنسية واسمه الحقيقي فرانسوا ماري أرويه (1694- 1778) بقي حتى آخر حياته يواجه التعصب الديني في الوقت الذي دافع فيه عن الإسلام ورسوله ورأى فيه دين التسامح حين كتب «أخلاق الأمم وروحها» 1751 و«بحث في العادات» عام 1765.
اليوم وبعد وقوع أحداث صحيفة شارلي إيبدو في باريس تم بيع أكثر من 100000 نسخة من كتاب فولتير «رسالة في التسامح» خلال الأشهر القليلة الماضية فلماذا تهافت الفرنسيون على قراءة هذا الكتاب من جديد ليبلغ أعلى نسبة مبيعات بين الكتب مؤخراً؟
هل ذلك ناتج عن المأساة التي وقعت في الصحيفة؟ هل لأن السخرية اللاذعة لفيلسوف عصر الأنوار سيكون لها أثرها البليغ ضد المتطرفين؟
عن هذا الموضوع يجيب الناقد الفرنسي الكبير فيليب سولير في لقاء مع صحيفة لوموند قائلاً: يجب أن نتساءل لماذا يبدو الفرنسيون وكأنهم استيقظوا اليوم واكتشفوا فولتير من جديد وأحبوه فجأة؟ فكما نعلم أن الفرنسيين لا يحبون فولتير بل الإنكليز هم من يقدرونه ويتذوقون أعماله أكثر كما فعلت مؤسسة فولتير لجامعة أوكسفورد التي نشرت أعماله الكاملة (13 مجلداً) في دار بلياد، في فرنسا. الأمر مختلف حيث يراه الفرنسيون متهكماً جداً وهو بالنسبة لجماعة اليمين ضد الكنيسة أما جماعة اليسار فيأخذون عليه أنه يعبد الله من دون الأنبياء ومات ثرياً. إنهم يتملقونه اليوم لأنه هاجم المتطرفين بشدة ودافع عن التسامح فهم يمتدحونه لأجل رسالته في التسامح لكنهم ينسون معاركه الفلسفية وسخريته بطريقة تبدو أشد إيلاماً من الشتيمة.
إننا ننسى فولتير المناضل ضد التعسف والاستبداد حيث أمضى حياته في القتال وقد أجبر على العيش عند الحدود مع سويسرا خوفاً من اعتقاله بسبب مناهضاته لممارسات الكنيسة والسلطة الملكية والقرارات الفضائية الظالمة في ذلك العصر. لقد كان فولتير مناضلاً لاذعاً باستمرار، وقد أحسن رولان بارت الذي قدم لكتاب فولتير «روايات وحكايات» بالقول: «لا أحد غير فولتير أعطى لمعركة العقل لبوساً احتفالياً كسير مهرجان، فكل معاركه كانت على شكل مشاهد أو عروض واسم الخصم دوماً يثير السخرية والقضية المتنازع عليها تتحول إلى عرض».
ويضيف سولير: علينا أن نذكر أن فولتير قاد معركة سياسية وفكرية حتى النهاية، لم يكن متسامحاً أبداً مع الحماقات ومع الطغيان فلا تسامح مع أعداء التسامح، هكذا هو فولتير.
إن التسامح السائد حالياً هو تسامح متملق وهذا ينخرط في نطاق الحياد الفلسفي دون أن تقاد أية معركة فكرية ضد التطرف أو أن تنتقد تفاسير خاطئة لنصوص دينية وهذا يصبح مفهوماً برجوازياً يقارب سياسة الخضوع، بينما فولتير كان معروفاً برفضه الخضوع وكان ثائراً ضد اللاتسامح فقد هاجم أصحاب الاعتقاد المنقاد وهزئ بهم وسخر منهم فما عساه أن يكتب اليوم لو كان شاهداً على ما يحصل وهو الذي هاجم عام 1765 الفتوى المخيفة التي أصدرها مفتي الإمبراطورية العثمانية «المقدسة» والتي قرر فيها ذلك المفتي تحريم الكتب والطباعة.
كان فولتير يدرس الخصم وهنا تكمن قوته حيث يجمع المعلومات عنه ويوثق بطريقة مذهلة، إني أراه اليوم كيف كان سيعلق على مشاهد الفيديو التي تعرض عن المذابح، كم نحن بحاجة إلى فولتير اليوم! ولنتذكر رواية «كانديد» التي كتبها عام 1759 حين يصل بطلها بانغلوس إلى القسطنطينية ويدخل أحد مساجدها فيجد إماماً طاعناً في السن وفتاة جميلة متدينة تقرأ القرآن وفجأة تسقط من يدها باقة تحملها فيبادر بانغلوس ليلتقطها ويعيدها إليها بكل احترام وعندما علم الإمام بأنه مسيحي أمر بجلده مئة جلد على قدميه ثم أرسل إلى سجن الأشغال الشاقة.
ألم يكن في ذلك أروع تعبير؟ ففي بعض السطور قال كل شيء كما أعلن في إحدى مسرحياته: «نحن بحاجة إلى عقيدة جديدة لمجابهة هذا الكون الأعمى».
لقد حلل فولتير بشكل دقيق حالة التعصب والتطرف حين تحدث عنه كمرض يهاجم العقل ويتفشى كحصبة الجدري يقول: «حين يفسد العقل بالتطرف يصبح كما لو أصابه مرض عضال كالغنغرينا من الصعب الشفاء منه».
كما يصف فولتير أزمات الجنون التي يسببها هذا التعصب قائلاً: لقد رأيت أولئك المتشنجين يزبدون ويصرخون: «نريد دماً» ويتساءل فولتير: ماذا تجيب من يقول لك إنه يستحق الجنة إذا قام بذبح إنسان؟
ويتابع الناقد سولير قائلاً: لاحظوا معي فيما نشهده اليوم كيف تأخذ كلمة ذبح دلالاتها الواقعية في التقرب إلى الله عند هؤلاء المتطرفين وهذا يبرهن كم كان فولتير محقاً عندما قال: إن الأوغاد المحتالين هم الذين يقودون المتطرفين كما هي الحال التي نشهدها مع داعش اليوم التي تقتل وتنهب وتتاجر بالآثار والمخدرات، ولا ننسى تذكير فولتير بالضلال الديني أثناء الحروب الصليبية التي أفرغت أوروبا من شعوبها حين يستحضر مذابح سان بارتيلمي عندما تسابق البرجوازيون في باريس على ذبح وقتل المواطنين وإلقائهم من النوافذ لأنهم لم يذهبوا إلى القداس، فهل من الممكن أن نشهد أحداثاً كهذه في فرنسا يوماً ما؟ علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.
بقي فولتير طوال حياته ساخطاً على هذا الحدث المشين وكان يعبر عن غضبه في يوم ذكرى المذبحة من كل عام بأن يأوي إلى فراشه باكراً. وفي آخر «رسالة التسامح» يتوجه إلى الله بالصلاة قائلاً: «رباه لم تمنحنا قلباً لنكره بعضنا ونحقد على بعض ولا أيادي لنذبح بعضنا البعض» وكان يقول: «لو لم يكن الله موجوداً لاخترعناه» وهذا كلام جريء في ذلك العصر إنها فكرة الديانة الطبيعية التي دافع عنها مفكرو ذلك العصر الذين عرفوا بالموسوعيين والذين اعتبروا أن العقل نور طبيعي.
وعن سؤال: من يستطيع اليوم أن يدعي أنه فولتيري بعد أحداث شارلي ايبدو؟
يجيب فيليب سولير: لقد نزل أربعة ملايين شخص إلى الشوارع في فرنسا ليتظاهروا ضد التطرف ويعترضوا على اغتيال رجال الكاريكاتير وهذا يبعث الطمأنينة، لكن ما أريد قوله: إن فولتير لم يكن كاريكاتيرياً بل ساخراً والسخرية ليست كالكاريكاتير فالسخرية لا تشتم أحداً بل هي سم بطيء يهاجم المراكز العصبية لمرض التطرف ومن يرغب أن يكون فولتيرياً يجب أن يكون على مستوى سخرية وأسلوب فولتير إن مجلة شارلي ايبدو تتبع منهج الفوضوية الفرنسية (وهو أسلوب اتبعه الاشتراكيون الطوبائيون أعداء الكنيسة أتباع برودون وسان سيمون وهو تيار متجذر في فرنسا).
علينا أن نعيد قراءة ماركس أيام شبابه في كتابه «بؤس الفلسفة» 1847 الذي سخر فيه من برجوازية برودون وضعف نظريته ونحن مثله اليوم نصنع الكاريكاتير دون أن يكون لدينا فلسفة قوية، لماذا يخاف الفرنسيون كثيراً وينطوون على أنفسهم؟
لأنهم لا يطورون عضلة العقل فلدي أصدقاء مثلاً يقولون نحن ذاهبون إلى الصين وفي الطريق سنقرأ فولتير، غير أنهم في الطائرة يشاهدون الأفلام ويقرؤون بريدهم الإلكتروني فلا عجب بعد ذلك أن ترى ازدياد الجهل ونمو التطرف وحضور الأمية وبؤس الفلسفة.
اليوم علينا معالجة ذلك كله وأن نعود إلى القراءة، فالذين كانوا يجيدون القراءة يبدو أنهم نسوا تلك القراءة ومعظم الذين مازالوا يقرؤون لا يقرؤون إلا بعيونهم. علينا أن نقرأ فولتير كل صباح، مقتطفات من مراسلاته لكن أن نقرأ والقلم في يدنا.