ثقافة وفن

متري قندلفت أحد مؤسسي المجمع العلمي والعربي … الدين عنده ليس طقوساً أو عبادة بل الحياة مع الآخرين فجسد كل ما كتبه عن الدين والدنيا في حياته وسلوكه

| سوسن صيداوي

يقسّم مؤلف الكتاب أيهم ميشيل بطحوش (مؤلفه): «الأستاذ متري قندلفت أحد مؤسسي المجمع العلمي العربي» إلى فصلين الأول منها يتناول حياة الأستاذ متري قندلفت ونشأته ونفيه إلى الأناضول وغير ذلك من الأحداث التي حصلت خلال مسيرته العلمية، أما الفصل الثاني فتضمن ما تركه لنا من إرث مطبوع من كتب مترجمة وأشعار ومقالات وبحوث إضافة إلى المخطوطات.

نشأته وحياته
ولد متري إبراهيم قندلفت في دمشق عام 1859 وسط عائلة تمتهن صناعة الحرير لكن طموح قندلفت الفكري وتوّقد نور العلم في داخله جعله يناضل تجاه رغبة أبيه في أن يكون وريثا لصناعة الحرير مثل أبيه، وبات التعليم الذاتي أسلوبه الشغوف في الدأب على القراءة والكتابة وفي البحث عن مصادر تعليمه أينما كانت، هذه الرغبة غير المتخاذلة دفعت الأب إلى الاستسلام بل إلى السعي لمساعدته على الالتحاق ببعض المدارس الأهلية وحضور مجالس بعض شيوخ عصره من العلماء ما ممكنه من إتقان العربية والتركية، بعدها تمكن من إجادة اللغة الإنكليزية بمساعدة سيدة أميركية حضرت إلى دمشق هي الأنسة «كروفورد» التي لقنته دروس اللغة الإنكليزية، كما أن الحوارات المطولة معها في عدة مجالات إضافة إلى مساعدتها في نقل المواعظ والخطب الدينية إلى العربية كلها عوامل كان لها الأثر الأكبر في إجادته للغة الإنكليزية ولبراعته في الترجمة، وطلبت منه أن يترجم كتابا في الوعظ الإنجيلي فأنجزه على أكمل وجه، وبالطبع أنه لأمر طبيعي أن من يحمل شعلة النور ينشره أينما حل، وبالفعل لمع اسم الأستاذ قندلفت في ظلام ذلك العصر الحالك الذي ساد فيه ظلم الاحتلال العثماني فكلفته بعض المدارس الخاصة بتدريس اللغة الإنكليزية والعلوم الاجتماعية إلى جانب ترجمته للكتب الاجتماعية والتربوية والدينية ونشر العديد من المقالات والبحوث والقصائد في المجلات العربية.

نفيه إلى الأناضول
في نهايات القرن التاسع عشر استنكر رجال النهضة العربية الاحتلال العثماني لبلادهم منددين بالحال التي وصلت إليها البلدان من تخلف وفقر وجهل وقام عدد من علماء دمشق وأعيانها وتجارها ومفكريها ومن بينهم الأستاذ قندلفت بكتابة بيان « برقية» إلى السلطنة العثمانية بهدف إيجاد توازن مع السلطة العثمانية المتمثلة بحكم جمال باشا السفاح، رغم قناعة أغلبية الموقعين على البيان، والذين عددهم (81) فردا، بالرفض القاطع للاحتلال العثماني وإنهائه، ولم تمض أشهر حتى بدأت رحلات النفي تطول العلماء والمفكرين حيث أمر جمال باشا السفاح قائد الجيش في سورية بنفيهم مع أسرهم بحجة أن آراءهم تخالف سياسة الأتراك ومن جهة أخرى للمحافظة على أمن الجيش، فقضى الأستاذ قندلفت مدة نفيه في مدينة طوقان في تركيا حتى انتهاء الحرب، وللأسف نجم عن هذا النفي المفاجئ ضياع المكتبة القيمة التي اقتناها إضافة إلى فقدان جميع أوراقه الخاصة والكتب المخطوطة التي أفنى زهرة شبابه في نقلها إلى العربية.

متري قندلفت عضو في مجمع اللغة العربية
بعد خروج الأتراك من سورية قامت أول حكومة عربية في عام 1918، ومن بعد الإهمال الكبير الذي تعرضت له اللغة العربية على مدى ما يقارب أربعة قرون بسبب سياسة التتريك التي اتّبعها الاحتلال العثماني، بمشروع إحياء اللغة العربية وإعادة مكانتها وألقها من خلال آلية جديدة عبر إحداث هيئة أطلق عليها لجنة الترجمة والتأليف وتبعتها عدة لجان منها لجنة المعارف ولجنة التعريب ثم ما لبثت أن دُمجت هذه اللجان تحت مسمّى ديوان المعارف برئاسة الأستاذ «محمد كرد علي» وكان من مهامه النظر في شؤون المعارف عامة وتأسيس دار للآثار وإقامة المكتبات العامة وبناء المدراس الحكومية والإشراف عليها ووضع منهج لها، بعدها اقترح الأستاذ «كرد علي» على الحاكم العام العسكري بدمشق تسمية جديدة للديوان تلبي نشاطه واتساع أعماله فاستبدل المجمع العربي بديوان المعارف وكان الأستاذ قندلفت واحدا من أعضائه العاملين والمؤسسين كما كانت أولى مهامه الإشراف على طباعة مجلة المجمع والتحرير فيها كما كتب في باب (آثار وأخبار) حيث قدم شرحا وافيا في وصفه للعديد من التماثيل الفينيقية والحثّية واليونانية وغيرها من القطع المتنوعة من القيشانية والزجاجية من حيث أحجامها ورسومها وأشكالها والأماكن التي أُحضرت منها، بالإضافة إلى وصف أنوع الأسلحة الموجودة ومنها سيف الصحابي أو عبيدة بن الجرّاح وبعض الدروع القديمة، كما وصف في أحد أبواب بحثه النقود والعملات الذهبية والفضية والنحاسية ومقتنيات أثرية كانت النواة الأولى لتأسيس المتحف الوطني السوري.

قندلفت نائب مميز في معهد الحقوق العربي
تأسس معهد الحقوق أو ما يعرف بمدرسة الحقوق في دمشق عام 1913 وبسبب حاجة المعهد إلى مشرفين إداريين، أصدر وزير المعارف مرسوما بتاريخ 1/8/1921 يقضي بتعيين الأستاذ متري قندلفت نائباً مميزا فيه، وكانت مهمته الإشراف الإداري والقيام بمهام الترجمة إلى العربية وبذلك انتهى تفرغه من الأعمال المجمعية ليصبح من أعضاء المجمع المراسلين وبقي في معهد الحقوق إلى أن أحيل على التقاعد عام 1924.

وفاته
بعد إحالة الأستاذ متري قندلفت على التقاعد في معهد الحقوق غادر دمشق إلى بيروت فاستقر فيها وتفرّغ للترجمة والتأليف وتدوين مذكراته متنقلا بين لبنان ومصر، إلى أن وافته المنية في بيروت عام 1933 وفيها دفن وهو في الرابعة والسبعين من العمر.

آثاره العلمية والأدبية… المطبوعة
قام الأستاذ متري قندلفت بترجمة عدة كتب إلى اللغة العربية من بينها كتاب «المدرسة والمجتمع» تأليف الفيلسوف الأميركي «جون ديوي» وطبع في دار المعارف في مصر عام 1928 حيث يعتبر هذا الكتاب من أشهر الكتب في أصول التربية والتعليم لأهميته كما أنه تُرجم إلى عدة لغات، وكان قد كُتب على غلافه بيتان من الشعر:
ما ضرّه ألا يكون كبيراً إن كان حاصل نفعه موفورا
بل زاد رونق حسنه في العين إذ كبرت منافعه وكان صغيرا
كما ترجم الأستاذ كتاب «طرق الأمان لمُحدث الإيمان» تأليف «الأب بويد» إلى اللغة العربية وطبع في مطبعة الأميركان بيروت وذلك بناء على اقتراح الآنسة «كروفرد» التي درّسته اللغة الإنكليزية واستهل الكتاب ببيتين من الشعر نظمهما لغرض الكتاب، يقول:
يا من هداك الروح منهاج الفدى بدم الحبيب ونعمة الرّحمن
سِر فيه لا تخش الرّدى أبدا فذي طرق الأمان لمُحدث الإيمان

قندلفت… الشاعر
لم يترك الأستاذ قندلفت سفراً أو ديواناً لأعماله الشعرية فربما ذهبت أشعاره مع مكتبته التي نُهبت وأُحرقت أثناء نفيه إلى تركيا إبان الحرب العالمية الأولى، إلا أنه تم العثور على ثلاث قصائد من المجلات والصحف التي كتب بها، أولها قصيدة «زفرات الأشجان» نظمها في رثاء عمه يوحنا عنحوري وقال فيها:
نعم في الحشا غصنٌ سقته مدامعي
وقلبي عليه الدهر بالنوح ساجع
نعم غاب عنا البدر قبل اكتماله
فتمّ بمسراه وردَّ المنازع
وإن غاب ذاك البدر يحجب نوره
وقد غاب هذا والسّنا منه ساطع
توارى بأفق الغرب والشرق مطلع
وهل كوكب إلا من الشرق طالع؟
والقصيدة الثانية التي عثر عليها في المجلات والصحف التي كان ينشر فيها الأستاذ قندلفت كانت بعنوان «أخلاق المهذب الكريم» ومن أبياتها:
ربُّ المحاميد تُعليه مفاخره
وصاحب الفضل لا تفنى مآثره
ومن بغى الخير تمجيدا لخالقه
ينله مجدا بما تنوي سرائره
حقُّ صفيُّ يغذي النفس في شِبع نور
سنيُّ يضيء العقل باهره
من كوكب البر تستجلى حقائقه
من سدرة المنتهى تجلى أزاهره
ومن أبيات القصيدة الثالثة التي تحمل عنوان «مناجاة الإيمان»:
يا بارئ الأكوان يا قطب الورى
من ذا الذي يقضي فروض ثناكا
أنت الذي بسماء قدسك ساكن
هل ترتضي قلبا طغى سكناكا
فانظر إلهي من سمائك
راحما عبدا لعونٍ لا يروم سواكا

مقالاته وبحوثه
كان إرث الأستاذ متري قندلفت غنيا بالبحوث والمقالات التي نشرها في العديد من المجلات التي تناول فيها مواضيع متنوعة منها: ناموس النشوء في تقديم العمران/ المرأة الإسرائيلية في العصر القديم/ تعليم الشريعة في عالم الطبيعة/ مراقي الطب التاريخية/ نعم العلم في تقدم الاجتماع/ تأثير الإقليم في الأمم والتعليم/ العلم يقود إلى السلم/ من هم رجال الغد… وغيرها الكثير.

آثاره المخطوطة
فُقدت جميع كتب الأستاذ متري قندلفت وأوراقه للمرة الثانية بعد وفاته في بيروت ولم تعثر ابنته «أليس» إلا على مخطوطة واحدة وهي ترجمة كتاب المربية الإيطالية «ماريا منتسوري» وعنوانه «تربية الأطفال ومدارسهم» وهي تبذل جهودها لنشرها في القاهرة.

المصادر والمراجع
اعتمد كتاب «الأستاذ متري قندلفت» تأليف «أيهم ميشيل بطحوش» على مصادر ومراجع عديدة منها الكتب التالية: الإعلام لخير الدين الزركلي/ تاريخ المجمع العلمي لأحمد فتيح/ طرق الأمان لمحدّث الإيمان للأب بويد، مجمع اللغة العربية في خمسين عام لعدنان الخطيب/ المجمعي القانوني لعدنان الخطيب، ومن بين الدوريات والمجلات التي اعتمد عليها المؤلف: جريدة المقتبس، مجلة الحسناء، مجلة اللغة العربية بدمشق، مجلة المقتطف، مجلة النعمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن