ثقافة وفن

الحصون بين الداخل والخارج

| إسماعيل مروة 

بين الحديث عن التدخلات الخارجية فيما يجري على الساحات العربية عامة، وسورية خاصة، والحديث عن العوامل الداخلية خيط رفيع ودقيق للغاية، فالحديث عن التدخلات الخارجية من جميع الأطراف العالمية والإقليمية، يأخذ منحى المؤامرة الخارجية، وهو في جملته صحيح ودقيق، بل طبيعي للغاية، فلكل الدول مصالح تسعى لتحقيقها، ولا يعنيها بحال من الأحوال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بل تعمل من أجلها بشكل حثيث لا يتوقف، ولكن هل بإمكان هذه المصالح أن تقلب الموازين؟! وهل تتمكن المصالح الخارجية ودولها من فعل ما تفعل لولا توافر العوامل الداخلية؟ أغلب المحاورات التي تجري، وعبر وسائل الإعلام أو في المنابر تتحدث عن جانب دون آخر، فنسمع حديثاً عن التدخلات الخارجية يظهر الداخل لا حول له ولا قوة، وأحياناً يمنحه البراءة مما يجري، أو يقزمه تقزيماً غير منطقي، وربما سمعنا حديثاً عن الداخل يتجاهل كل أمر قادم من الخارج.
إن المتابع لما جرى على الساحة العربية في كل البلدان التي جرت فيها أحداث وحروب يقف عند التدخلات والعوامل وقفة نقدية صادقة ومصارحة… ويفصل في الزمن، وهذا الفصل مهم للغاية، لأن كليهما يرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً، وأحدهما ليس إلا نتيجة للآخر، ولا يجوز النظر إلى أحدهما مع إهمال الآخر..
العوامل الداخلية هي الأساس، وهي التي تسبق الخارجية، وتؤسس لمشروعيتها، أو تمنع حدوثها، وهنا استعير ما قاله أحد الكتاب، وجعله عنواناً لكتابه (حصوننا مهددة من الداخل)، إن صلابة الداخل أي داخل، وتضييق هوة الخلاف، ووجود الفساد في درجات مقبولة، يكفل أن تكون الحصون قوية، وهذه الصلابة تترافق مع أهم عنصر من عناصرها وهو المعرفة والثقافة، وغياب النسب العليا من البطالة، فعندما تتحقق هذه الأمور يصبح الداخل أقوى، ويتوقف دور العوامل الخارجية بشكل كبير، إن لم يصبح من المحال أن تتحقق الغايات من التدخل الخارجي! فأن تشعر بالانتماء والمواطنة وكرامة العمل والعيش فهذا يكفل أن تكون منتمياً ومدافعاً وقوياً، ويمنع في الوقت نفسه أن تكون تابعاً لأحد، أي أحد، وأن تملك الثقافة، وهذا لا يعني الشهادات، يعني أن تكون على معرفة بالآخر الذي يشاركك، ويكون على معرفة بك أيضاً، وفي هذه الحال تفيد هذه المعرفة في تحديد واجباتك ومهامك، وما يلزمك من الآخر، وليس المقصود هنا أن أعرفه لأحاربه أو أتعايش معه كما يشيع في المصطلح، بل أعرفه لأخدمه شريكاً، ويعرفني ليخدمني شريكاً.
لكن ما حدث أثبت أمراً خطيراً للغاية، فالإنسان العربي، على اختلاف انتمائه عرقياً ومذهبياً وطائفياً لا يعرف الآخر، ولا يحمل روح المواطنة الحقة، بل الأخطر أنه جاهل بذاته هو وبانتمائه هو! وهذا يحقق غايات خطيرة للخارج، إن لم يكن قد تم العمل عليها أصلاً، فهذا يدافع عن قضايا يجهلها، وقد تكون ضده وضد مصلحته، ويؤدي بالنتيجة إلى التعصب في أمور لو عرف جوهرها ما تعصب لها، وما دافع عنها، وذاك يحارب أمراً يجهله، لذلك ستكون أحكامه غاية في الفجاجة والقسوة، وربما أخذت هذه الصراعات الداخلية لبوساً انتمائياً عرقياً أو دينياً، وزادت الهوة بين الناس إن كانوا متقاتلين أم كانوا غير متقاتلين! ولا ينكر إلا مكابر أن ما وصلت إليه المجتمعات العربية من قدرة على الاحتراب الداخلي هو أعلى مستوى يمكن أن يبلغه، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التقدم التقاني والحضاري الذي يشهده عصرنا، والعالم العربي ضمناً، فإذا ما نظرنا إلى التقدم التقاني والحضاري أيقنا أن مستوى الجهالة أكبر بكثير..!
فإذا كانت داحس والغبراء قد حدثت في زمن مضى، فإننا عندما نقرؤها في التاريخ نسخر ممن افتعلها واستمر في إشعالها، وننسب ذلك كله للجهل، ولغياب الوعي، وربما لغياب الحكمة ووسائل الاتصال التي يمكن أن تنقل تفاصيل مفزعة عن هذا الجهل، إن كانت داحس والغبراء حدثت في الصحراء، وفي حضن الجهل والعصبية وغياب الحضارة، فماذا نسمي ما يجري اليوم على الأرض العربية بعد القرون المتطاولة، وبعد انغماس العرب في الحضارة أو زيارتهم لها، واستثمارهم فيها؟!
إن المنصف اليوم لابد أن يعذر أولئك الذين اقتتلوا بفعل عقلياتهم وبيئاتهم، وسيجد أن ما يحدث على الأرض العربية اليوم أدهى وأمرّ من اقتتال بيني، ومن عصبية وتعصب، ومن عصبية وطائفية وما شابه ذلك! بعد كل القرون لم يدرك العربي حقيقة وجوده وانتمائه، ولم يتعرف إلى الحياة والشراكة! ولم يصل إلى قناعات مهمة بأنه لا يحمل وزر تاريخه، وغيره لا يحمل ذاك الوزر، يردد دوماً «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ولكنه لا يفعل ما يتماشى مع الآية، وكأنها جاءت للتغني والعبادة لا للامتثال!!
إن المتمعن سيجد من دون أدنى عناء أن حصوننا دوماً كانت مهددة من الداخل، وأن معاركنا الفكرية والعقيدية ما كانت يوماً مع الخارج، وإنما بدأت في الداخل، واستشرت في الداخل، وانفجرت في الداخل!
كل ما يجري اليوم على الأرض العربية لا حلّ له إلا من الداخل، وذلك باعتناق مبدأ المواطنة والحرية، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الخارج بريء مما يجري، ولا يعني أن المؤامرة على بلادنا وشعوبنا وخيراتنا ليست مستعرة، بل هي كذلك، ومن الطبيعي أن تسعى الدول على أن تتمدد، وأن تسعى للهيمنة على غيرها، وأن تعمل الدول الكبرى على ابتلاع الدول الصغرى، وهذا من بدهيات الأمور… والعالم يشهد أن المؤامرة على بلداننا كبرى وكونية، ولا يستثنى منها شرق ولا غرب… ولكن الذي يجب أن نتنبه إليه أن الحلول التي ينتظرها بعضنا من الخارج لن تكون لمصالح بلداننا، ولا لمصلحة أحد، فإذكاء نار الخلاف على أشده وأوجه، حتى في أروقة المحادثات، وما نترقبه من الخارج لن يكون أكثر من مسكنات خارجية مع محافظة على آلية تفكير ساعدت في تخلف مجتمعاتنا، وستبقى تعمل على وجود هذه الآلية من التفكير التي ستعيد حرب داحس والغبراء مجدداً.
إنّ أيّ حرب أو صراع كالذي يجري على الأرض العربية يحتاج إلى شبكة من المعالجات، منها فك اشتباك المصالح الخارجية، ولكنه ليس الوحيد، فما على الأرض يحتاج منا عملاً مضاعفاً، ولابد من العمل الداخلي الذي يقنعنا بأننا بدأنا نسير بالاتجاه الصحيح، ويكفي بلداننا ما وصلت إليه من بحث عن الحلول في أدمغة مستوردة، وكل ما نحتاجه هو أدمغتنا الصافية القادرة على تجاوز حدة الخلاف الحاد جداً في الداخل العربي، وعندها ستنهار المؤامرات، وعلى أقل تقدير ستتساوق مع ما يراه الحكماء قبل أن تلتهم داحس والغبراء ما تبقى، ونحن نعدّ الضحايا، والآخر يسرقنا وهو يقدم لنا المعونات!!
أحبك أولاً وتحبني.. أحترمك وتحترمني… وبعدها سيبحث الآخر في مصالحه ضمن منظومة الحب والاحترام، وما عدا ذلك ضرب من التجديف ومصارعة طواحين الموت والدمار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن