بين إخفاق «فيينا» وانتهاء الهدنة: عندما تساوي الرقة… سورية
| فرنسا – فراس عزيز ديب
ليس غريباً أن الفصائل الإرهابية في الغوطة بدأت تأكل نفسها، وليس الجديد أن يخرج عتاة المعارضات السورية بشقيها المسلح والمدني، أحدهم يدعو «إسرائيل» علانيةً للتدخل لنصرة الشعب السوري والآخر ليعترف أن المعارضين السوريين هم مجموعة من اللصوص وقطّاع الطرق، لكن الغريب أن هناك في الجانب الآخر ممن يستعجلون الانتصار، لم يفكروا بعد أن حجم التضحيات تسير بالتوازي مع حجم ما كان يراد لنا. عليه يصبح الجواب عن السؤال البديهي: ماذا لو كنا سقطنا؟
بأفضل الأحوال لكنا حالياً محكومين من قطاع الطرق واللصوص والمجرمين (وباعترافهم).
منذ انتشار الفيديو الذي يظهر المجرم «زهران علوش» وهو يدخل في خلاف على مصير عشرات الملايين من الدولارات مع قادة مجموعات إرهابية تسيطر على بعض مناطق ريف دمشق وتأخذ المدنيين دروعاً بشرية لتحقيق طموحاتها الشخصية، كان واضحاً أن الإعداد للمعركة بين هذه الفصائل الإرهابية يسير على قدم وساق، لكن وبصورة أشمل؛ فإن ما يجري ليس أكثر من انعكاس لحجم الهوة والخلاف وصراع النفوذ بين داعميهم، ألم يقل سيئ الذكر «حمد بن جاسم» في اعترافاته الشيطانية إننا كنا في الواجهة حتى دخل «آل سعود» على الخط! هو صراع الواجهة ومن يدفع ثمنه هم الأبرياء من جهة والحمقى من جهة أخرى، وفي كلتا الحالتين فإن صراع الواجهة هذا يبدو أيضاً صورةً مصغرةً عن الصراع الأوسع؛ دولياً وإقليمياً، وهذا ما تجسد فعلياً في الفشل الذريع الذي حققه ما يسمى اجتماع فيينا، ليعلن «دي ميستورا» أن «رمضان الصوم السياسي» قد هلّ هلاله، وأن لا مفاوضات قادمة في المدى القريب، بل إن «جون كيري» تملص حتى من مهلة شهر آب للحديث عن بداية جدية في دخول الحل السياسي، غير أن هذا الفشل الذريع ليس مرتبطاً فقط بفظاعة ما يجري في سورية واليمن والعراق، بمعنى آخر:
بات الحديث عن «الأزمة السورية» مجرد واجهة ليهرب فيها المجتمعون من مشاكلهم الداخلية لا أكثر، فالجميع مأزوم، عدا الولايات المتحدة.
لم يعد كافياً الحديث عن مملكة «آل سعود» واضطرارها المتتالي لبيع سندات الخزينة لتغطية عجز الميزانية، ولا عن تركيا نفسها التي تسير برعاية أردوغانيّة -وإن ببطء- نحو المجهول، تحديداً بعد إقرار رفع الحصانة عن عشرات النواب، لكن هل تبدو فرنسا بحال أفضل من هؤلاء؟!
لا يبدو الأمر كذلك، فالداخل الفرنسي على المستوى الشعبي بات يعيش حالةً من الغليان غير مسبوقة، إن كان لجهة الخوف من تفشي الإرهاب، أو تفشي العنف خلال الاحتجاجات المستمرة على إقرار قانون العمل الجديد. أما على مستوى الطبقة السياسية، فلم يعد خافياً الخلاف المتزايد بين هولاند من جهة ورئيس وزرائه من جهة ثانية، وهو أمر قد يحتاج مقالاً مستقلاً. الآن جاءت حادثة الطائرة المصرية لتصبّ الزيت على النار على المستويين الشعبي والرسمي، لدرجة تجعلنا نتأكد من وجود لغز ما، ربما لا يسر عدواً ولا صديق:
منطقياً، إذا كان هناك رصد لدخان من الطائرة قبل سقوطها بدقيقتين، فلماذا لم يتم الإعلان عن ذلك وقتها، وما الهدف من تعويم فكرة وجود خلل فني، ومن ثم العودة «ملزمين» لفرضية العمل الإرهابي؟
ربما المقاربة واضحة، وهي سعي فرنسي للهروب من فرضية العمل الإرهابي بأي طريقة، وإلا فعلى الجميع ساعتها أن يقدم تفسيرات منطقية، هل هي عبوة ناسفة أم انتحاري وكيف مرّا من مطار «شارل ديغول» الذي من المفترض ألا تمر منه الذبابة، لكن قد نذهب نحو ما هو أبعد: هل إن سبب إسقاطها مشابه لسبب إسقاط الطائرة الماليزية فوق أوكرانية، أي الاشتباه بوجود شخصية ما؟ عندها من يستطيع أن يحاكم أولئك الذين جعلوا من الصواريخ المضادة للطيران بيد من يروق لهم من تنظيمات إرهابية؟
كل هذا الهروب إلى الأمام يثبت أن التغاضي عن تفشي الإرهاب لن يفيد إلا الإرهابيين، ويثبت قطعياً أن عالمنا اليوم لم يعد آمناً، وأن من جعل من «الأزمة السورية» مطيةً للهروب من مشاكله بات عليه اليوم أن يجلس ليقرر أحد أمرين: إما أن ينخرط فعلياً بمحاربة الإرهاب، أو يذهب ليلتفت إلى مشاكله الداخلية قبل أن يحجز له «آل سعود» موقعاً مجاوراً لهم في الجحيم، فالمشاكل تحرق أطراف ثوبهم وهي مستمرة.
لا يمكن لعاقل أن يصدق أن هؤلاء حضروا لفيينا لإيجاد حل والقضاء على الإرهاب، وبذات الوقت يصمتون عن سؤال طرحه أحد حلفائهم: (من الذي سيأخذ مكان النصرة إذا تم استهدافها)، أي إنهم يعترفون أن لا حدود لحماية التنظيمات الإرهابية إذا كانت ستحقق لهم هدف إسقاط النظام.
ما من عاقل أساساً يظن أن هناك حلاً، فاجتماع فيينا لم يثبت فقط الضياع الأخلاقي والإنساني بل يثبت أن ما يحكى عن شرعية الأمم المتحدة وما شابه يتساقط تباعاً، وإلا فكيف يمكن الحديث عن تسليح معارضة سورية بأطنان السلاح الفتّاك من دون إدانة للدول التي لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن؟ أكثر من ذلك؛ كيف يمكن للبعض أن يتبنى طلب الحماية لتنظيم إرهابي معترف به في مجلس الأمن كفرع لتنظيم القاعدة في سورية -جبهة النصرة- وبذات الوقت يريد محاكمة أفراد من الأسرة الحاكمة في مملكة الجهل بداعي جريمة ارتكبها تنظيم القاعدة منذ عقد ونصف العقد؟! فهل أدرك الروس فعلياً حجم الخديعة الأميركية، أم إنها بالأساس لم تكن خديعةً، بل هي نتيجة منتظرة حاول الروس سحب الأميركيين إليها، ومن بعدها تتحدّد التوجهات القادمة في الحرب على الإرهاب؟
وضع الروس تاريخاً محدداً لعودة العمليات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية في سورية. كان واضحاً من التعاطي الإعلامي مع كلام وزير الدفاع الروسي بأن القرار الروسي كان مفاجئاً لدرجة اضطرت بعض تلك الوسائل لاستخدام عناوين تتناقض تماماً مع مضمون الخبر. لا يمكن لنا اعتبار الروس بالسذاجة التي تجعلهم غير متوقعين للرفض الأميركي «السريع» لدعوتهم، حتى إن أوساطاً غربية تساءلت: هل إن الأميركيين منحوا الروس صك تسليم بالعمليات العسكرية حتى يصدر الرفض بهذه السرعة؟
ربما هي مبالغة في التحليل، لكنها تثبت فرضية أن الجميع لا يثق بالولايات المتحدة، بما فيها تلك الدول العريقة التي تعتبر نفسها نداً لها، حتى الروس أنفسهم أدركوا أن الولايات المتحدة خدعتهم بكذبة وقف الأعمال القتالية -مهما حاولنا تجميل الصورة- هي مشت بمسارين: الأول يرضي الحلفاء بالسماح لهم بتكديس السلاح، والثاني يرضي الروس بالحديث عن ضرورة وقف الأعمال العدائية، لكن كل هذا لا يكفي.
بذات الوقت سارت في العلاقة مع «آل سعود» بمسارين، الأول التلويح بقرار الكونغرس حول تورط «آل سعود» بأحداث أيلول، والثاني بالحديث عن رغبة أوباما باستخدام الفيتو ضد القانون، وإذا افترضنا أن فيينا قد أخفق وأن الولايات المتحدة تبنت بالكامل النظرة (السعو- عثمانية) حول ما يجري في سورية، لم يعد السؤال ماذا يريد الأميركيون من إقرار هذا القانون إذا لم يكن هدفه الضغط على «آل سعود» لوقف دعمهم العصابات الإرهابية في سورية، السؤال ماذا يريد الأميركيون من كل ما يجري؟
دائماً ما يميز الديمقراطيين عن الجمهوريين هو آلية صياغتهم للسيطرة الخارجية، فالجمهوريون يعتبرون أن الحروب العسكرية هي الأداة الوحيدة للهيمنة على مناطق النفوذ، أما الديمقراطيون فهم اشتهروا بسياسة «الحرب الناعمة» التي تتيح لهم تحقيق المصالح بالاستفادة من صراع الآخرين. يبدو أن الديمقراطيين بدؤوا منذ الآن صياغة حكمهم بعد تحقيق «هيلاري كلينتون» لنصرها المنتظر على «دونالد ترامب»، بالتالي كلمة السر في الملف السوري هي ما يسمى «قوات سورية الديمقراطية».
تعلم الولايات المتحدة أن «آل سعود» هم الممول الأساسي للتنظيمات الإرهابية، وأن «أردوغان» لن يدفع فلساً لدعم الجماعات الإرهابية في سورية ما دام بنك الإرهاب النفطي موجوداً، هم حالياً أدركوا أن آلية الضغط على «آل سعود» باتت متاحة، يمكن استخدامها في أي وقت، والعين باتت على الشمال السوري وليس لإيجاد حل في سورية، بمعنى آخر: ليذهب الروس بضرباتهم الجوية حيث يشاؤون، لكن الشمال السوري يجب أن يبقى معزولاً، بل أكثر من ذلك يمكننا القول ومنذ الآن إن هناك معادلة علينا الانتباه إليها: الرقة تساوي سورية… هل هذا حقيقي؟ نعم.
الولايات المتحدة تريد أن تتخلص من أغلب التنظيمات الإرهابية، بما فيها تلك التي يصفي بعضها بعضاً، لأنهم باتوا عبئاً عليها ولو أرادت لأوقف «آل سعود» والقطريون ما يجري في الغوطة بساعات، تحديداً إن البديل جاهز وصورته ليست كما بقية التنظيمات الراديكالية -حسب رأيهم- لأن ما تطمح إليه حكماً لن يحققه لها إلا «قوات سورية الديمقراطية». أكثر من ذلك، فإن أي دخول لهذه المليشيا إلى الرقة، سيعني حكماً أن حلم «إسرائيل الشمال» بات واقعاً، وأن مفاعيل «سايكس بيكو» انتهت نحو ما هو أسوأ، بعدها لن ينفع معها الندم، فهل يكون الحل بإعطاء الرقة الأولوية العسكرية لوأد المشروع الأميركي في أرضه؟
ربما الأمر أبعد من ذلك، فالحل السياسي سقط، لكن على الروس أنفسهم أن يوضحوا وجهة نظرهم بما تريده مليشيا «قوات سورية الديمقراطية»، لأن ما يطلبه هؤلاء ليس سراً، بل هم الصورة الأخرى للتطرف الذي تمثله ميليشيا «جيش الإسلام» مثلاً، وموعد الخامس والعشرين من أيار ليس ببعيد، والأوراق جميعها باتت فوق الطاولة بما فيها… ربط «حزب اللـه» ثأره لشهدائه بتحقيق هزيمة المشروع التكفيري…
لا حل وسط في الأفق، أحد هذه المشاريع سينتصر في النهاية، فمن سيمتلك الواقعية ليقتنع بوجهة نظر حلفائه… لننتظر.