ثقافة وفن

بداية البدايات هنا .. دمشق… أم الجبابرة… من رماكِ بسوء قصمه الله

| شمس الدين العجلاني

في سورية، في الشام، في دمشق، كانت ولم تزل بداية البدايات، في كل الأشياء والمسميات والوقائع والحضارات والعمارة والفن والغناء والموسيقا والعراقة والأصالة… والقهر والنصر..
قصص وحكايا سورية قد نبدأ بها ولكنها لن تنتهي، لها بداية وليس لها نهاية، قديمة عريقة، أصيلة جبارة هي سورية، مر عليها أمم وشعوب، غزاة وفاتحون، فقراء وأغنياء، شعراء وأدباء ومفكرون وعلماء و… استقبلت دمشق بصدرها الرحب كل هؤلاء وأطعمتهم وأسكنتهم ورعتهم، منهم من أحبها وأخلص لها، ومنهم من خان العهد وأساء إليها.

يحكى عن عاصمة الشام أنها تعرضت على مر الأيام والسنين لكوارث كثيرة منها بفعل الإنسان ومنها بفعل غضب الطبيعة، أصابها الجفاف فقتل الزرع والإنسان، وأصابتها الأعاصير فدمرت الحجر والبشر، وطمع بها الغزاة فجاؤوا ينهبون خيراتها، ويدمرون حضارتها.
تقلب على دمشق أقوام وأقوام، وعرفت من المجد لحظات ندر أن عرفتها مدينة أخرى. وعرفت من الأيام السوداء ما يبكي الحجر. ولكنها لم تعرف مذلة اليأس، فدمشق عميدة المدائن كانت ولم تزل تحمل التفاؤل المشبع إيماناً بالحياة، وأنها أقوى من الموت، والشدائد.. تنفض غبار الأيام وتعود لتقف شامخة في وجه كل الغزاة. وبقيت وستبقى دمشق، هي دمشق الرقم الصعب، حاملة لواء العرب والعروبة، لا يعرف أحد سر دمشق ولا يمتلك أحد الحقيقة الكاملة عن سرها، عظمتها، حضارتها، قوتها، قدسيتها… ولكن جميعنا يثق أن هنالك إلهاً يحمي دمشق.
ودمشق هي دمشق عاصمة بلاد الشام، حيث بداية الاستيطان البشري وتخطيط أولى المدن واكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات ومعرفة وتطور الأبجدية هنا، هنا في سورية قامت المدن الأولى في التاريخ، مملكة إيبلا، مملكة ماري، مملكة أوغاريت وراميتا، والبارة، ودورا أوروبوس… إن كثرة الحضارات التي قامت وتقاطعت فوق الأرض السورية والغنى الكبير للمواقع التاريخية التي تعود لجميع العصور والحضارات تجعلها مدخلاً وبوابةً للتاريخ، فقد قامت على أرض سورية حضارات كثيرة وسكنها شعوب شتى يمكن تعدادها على الترتيب: السومريون، الأكاديون، الكلدان، الكنعانيون، الآراميون، الحثيون، البابليون، الفرس، الإغريق، الرومان، النبطيون، البيزنطيون، العرب، وجزئياً الصليبيون، وأخيراً كانت تحت الاحتلال التركي والفرنسي.
وكان في سورية

في سورية اخترعت الحضارة والعراقة والجمال والغناء، ومن سورية فاح أريج الحضارة على القارات الأربع… في سورية كانت أبجدية أوغاريت تعد أكمل وأقدم الأبجديات وهي مسمارية، استعملت نحو 1500 ق. م في تدوين اللغة الأوغاريتية، والأوغاريتية لغة سامية شمالية غربية اكتشفت في أوغاريت عام 1928. وهي أكمل الأبجديات وأكثرها شمولا على الإطلاق.
ومن الشام خرج العديد من بابوات الكنيسة الكاثوليكية منهم القديس بطرس، القديس إفاريستوس، القديس أنكيتوس، ثيودور الأول، يوحنا الخامس سيسينيوس، قسطنطين، غريغوري الثالث.
والسوريون اعتلوا عرش روما، وعند البحث في أسماء أباطرة روما هنالك أسماء عدة تحت اسم «الأسرة السورية» من سورية كان الإمبراطور الروماني الشهير فيليب العربي أو ماركوس يوليوس فيلبس، المولود نحو سنة 200-204م، في منطقة الشهباء بالقرب من مدينة بصرى، وجوليا دومنا «يعني اسمها السيدة المبجلة» زوجة إمبراطور روما، التي توصف بأنها ﺃﻡ الأباطرة السوريين، وهي من مواليد مدينة حمص عام 170 م، ويجمع ﺍﻟﻤؤﺭﺧﻮﻥ أنها كانت الأعظم بين نساء روما، وقد أنجبت إمبراطورين، كاراكالا الذي حكم من 211 -217 م، وبليوس سبتيميوس جيتا أوغسطس غيتا (7 آذار 189 م – 19 كانون الأول 211 م) وهو الإمبراطور الروماني الثالث والعشرون.

وكان في دمشق
من دمشق مدينة الدين والدنيا انطلقت الدعوة المسيحية إلى أرجاء العالم، من الشارع المستقيم وحي حنانيا انطلق بولص الرسول إلى العالم بدين المحبة والسلام.. ومن دمشق انطلق الإسلام إلى أصقاع العالم عندما سرجت دمشق خيول بني أمية، وتبوأت أعلى القمم عام 661 م عندما أعلنت عاصمة العالم الإسلامي.
وفي دمشق كان أول مشفى في العالم في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام 707 ميلادية، وكان هذا المستشفى متخصصاً بمرضى الجذام، على حين أُنشِئ أول مستشفى أوروبي في باريس بعد ذلك بأكثر من تسعة قرون!!
ودمشق أول مدينة في العالم عرفت نظام توزيع المياه منذ الآراميين والرومان فقد أنشأ الآراميون نظام توزيع للمياه، وبنوا الترع وقنوات الري على أطراف نهر بردى، عرفت دمشق نظاماً لتوزيع الماء يدعى الطالع مهمته توزيع حصص المياه على الأحياء والحارات، وكان هذا النظام ترتيباً عمرانياً ميز دمشق في الفترتين الأتابكية والأيوبية… وهو أول ابتكار لتمديد الماء، حيث كان يصل كل الدور والقصور والمساجد والحمامات والمرافق العامة في قنوات ومسارب عديدة وكان في دمشق وظواهرها ما يزيد على مئة وأربعين قناة.
وقيل إن دمشق هي بلد السبلان، حيث يذكر ياقوت الحموي في مياه دمشق وسبلانها: «من خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها كثرة الأنهار، وجريان الماء في قنواتها، قل أن تمر بحائط إلا والماء يخرج من أنبوب إلى حوض يُشرب منه ويستقي الوارد والصادر، ولا رأيت بها مسجداً ولا مدرسة ولا خانقاناً إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، كان الماء محكماً عليها من جميع نواحيها» أما السبلان فقال عنها: «والبلد كله سقايات قلما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه من سقاية».
والسبلان كانت منتشرة في مدينة دمشق قبل عام 1178م وفق ما ذكره ابن جبير، ما يؤكد عراقة هذه الظاهرة، إضافة إلى ذلك فإن مدينة دمشق هي من أوائل المدن التي عرفت تمديد المياه حيث بنيت فوق شبكة كثيفة ممتدة تحت منازلها وحاراتها. حيث قال ابن فضل الله العمري الدمشقي في «مسالك الأبصار»: «ويجري الماء في قني مدفونة في الأرض إلى أن يصل إلى مستحقاتها وتتسع في منافعها، ثم تنصب فضلات الماء والبُرك ومجاري الميضاوات والمرتفعات إلى قني وسخ معقودة تحت أزجات الماء المشروب. ثم تتجمع وتنتهر وتخرج إلى ظاهر المدينة لسقي الغيطان».
وفي دمشق كانت الأوقاف تشمل الحيوانات، فكان وقف القطط في حي القيمرية تأكل منه وترعى وتنام، كما كان في دمشق وقف للجياد «الأحصنة» الهرمة والمريضة لتعالج فيه وكان مقره «أرض المرج الأخضر» وهو ماكان يعرف بمعرض دمشق الدولي القديم، وهنالك وقف للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي «محكمة الكلاب»، وهو في حي العمارة.
في دمشق كان أول برلمان عربي عام 1919 م، في وقت لم يكن العديد من البلدان والبلدات وشقيقاتها من المشيخات والإمارات، على الساحة السياسية أو الجغرافية..
ودمشق تعاقب عليها أمم وشعوب وقبائل، منهم العموريون، الميتانيون، المصريون، الرومان، البيزنطيون والعرب.
ودمشق تعرضت وتتعرض للغزو والاحتلال والنهب والتدمير مرات ومرات من الصليبيين إلى الزمن الأعرابي للعربان والغربان.

واحذروا دمشق الشام
يقولون إن أعظم الأباطرة البيزنطيين في الزمن الغابر كان يدعى هرقل، وحين وصله نبأ هزيمة جيشه شرّ هزيمة في أرض الشام غضب واستشاط، وأصابه اليأس والاكتئاب، ولملم بقايا جيشه وغادر أراضي الشام، ووقف على أعتاب سورية قائلاً: (سلام عليك يا سورية، سلام موَدِّع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً).
ويقولون عندما هدم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس سوردمشق وقع حجر كان مكتوباً عليه باليونانية: «ويكَ أم الجبابرة، من رماك بسوء قصمه الله..».
ويقولون إن هنري دي جوفنيل، المفوَّض السامي الفرنسي في سورية ولبنان في عام 1926؛ يروي حديثًا دار آنذاك بينه وبين وزير تركي سابق، حين كانت سورية ما تزال تشكِّل جزءاً من الإمبراطورية العثمانية: « بالله عليك، احتفظوا بها لكم (أي سورية)، واحتفظوا خاصة بدمشق! فإن هذه المدينة هي واحدة من تلك المدن المسمومة التي تقضي على الإمبراطوريات!»
أما الصحفي والكاتب الفرنسي جوزيف كيسِّل الذي جاء إلى سورية في مهمة للاطلاع على مجرى الأمور بخصوص إخماد الثورة السورية الكبرى في العام 1925-1926، فقال: «من الواضح أن جميع الأنظمة السياسية لا نفع لها هنا، حيث إنه ليس هناك بين البلدان ما هو بالطبيعة أكثر تعقيداً وأكثر صعوبة وأكثر ثورة من هذا البلد: سورية».
ويقول محمود درويش «في دِمَشْقَ تسيرُ السماءُ على الطُرُقات القديمةِ حافيةً، حافيةْ، في دِمَشْقَ، تُطَرَّزُ أَسماءُ خَيْلِ العَرَبْ، مِنَ الجاهليَّةِ حتى القيامة، أو بَعْدها، في دِمَشْقَ، ينامُ الغريبُ، على ظلّه واقفاً، مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد، لا يَحنُّ إلى بَلدٍ أَو أَحَدْ…».
فيا أيها القابعون في جحوركم: احذروا دمشق إنها أرقّ من الورد وأصلب من الصخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن