ثقافة وفن

عنقاءُ محمود درويش… وفينيقُ نصّي … وحدي كنتُ.. عندما قاومت وحدي.. وحدة الروح الأخيرة

| نجاح إبراهيم

ثمّة صمتٌ تمدد فجأة..
صمتٌ سريعٌ، ولكنه يُشبهُ برودة الرّماد، التي تسبقُ ولادةَ العنقاء، التي سأرثيها ذات مقطع في نصّي، الذي أرغبُ في قراءته.
إذ كان بعنوان «حزم الناردين» أي أعواد الطيْب التي يجمعها الفينيق، ليحترق فيها.
وما إنْ قرأتُ العنوان، وشرعتُ كعادتي بقراءة عتبة النصّ تمهيداّ لسرد الحكاية، حتى تحرّك الجمهورُ على غير إصغاء، حوّلت نظري إلى بياضِ الصّفحة إلى رجلين تحرّكا في القاعة، وإذا بالشاعر الكبير «محمود درويش»، والأديب بديع صقور، ظهرا فجأة، جلسا في الصّف الأمامي. ماجَ الحضورُ كوجه ماء تمسحهُ ريحٌ، وحين وضع الشاعر أصبعيه على خدّه إيذاناً بالإصغاء.

أعدتُ قراءة عتبة النّصّ، قلتُ: «انتفضْ من الرّماد، وارْمنا بمناديلك الأرجوانية، المنسوجة من ريشِ الجناح المبخّر بأعوادِ الطيْب، فأرواحُنا مزاودَ من يباب..
ثمّ أردفتُ بفاتحة لمأتم الرّخّ، الذي غاب طويلاً، وقد رغبتُ أن يختار الفينيق، كعادته نخلة عربية متمايلة، ليبني في أعلاها عشاً من سنبل الطيْب، يُنبئُ عن جنازة، فما نحنُ فيه من ركودٍ للضمير العربي، أشير إلى الانكسار، الذي ابتليَ به البطلُ في النصُّ، حيث كان يغوصُ في الرّمل وليس من مُنقذ، يشبه الكثيرين الذين وقعوا ضحية مدى من العذابات، بيد أنني أمدّ له كشخصية أخرى، تقفُ على النقيض من موقفه الجبان، فأقول : «هاتِ يدَك» وذلك بعد أن أعلن نهايته، وبعد أن كان يبحثُ عن احتضارٍ يليق به.
فتساءلتُ في النصّ: إنْ كنتُ أقف حيال شخصية تتأبّى علىالموت الجماعي. بينما كان الهلاكُ بساطاً يتمدّد بلا استحياء، واليباس لا يني يتعاظمُ، والوقتُ طافحٌ بالمقت، والخوفُ لنا جميعاً.
وعلى الرّغم من أنّ البطولات اندثرت، وما عادت أساطير البطولة تغري! إلا أنني استطعتُ أن أحيلَ الرّجلَ المنكسرَ إلى فينيق، ليخرج من رماده، ولأن تتوالد نفسه من نفسه، «حتى تكون الشهوة الخضراء، لا يقوى عليها الموت. إنها للشمس والغيث والبذار».
بعدئذ أخيّره بين أن يموت أو أن ينجوَ، وحين فتحَ عينيه على الخيار الثاني، قلت شرط أن يدفع بكله إليّ، وأنا أمدّ يدي. وفي النهاية ننجحُ، لينظر إلى الوراء، فيرى بركاً وقد تقزّمت، يفرد جناحيه ويهمّ بالطيران.
مفردات النصّ وتوظيف الأسطورة، والرمز، وانفتاح الباب على التأويل، ولأني قبضت على ابتسامة بل أكثر وأنا أقرأ، مما جعلتني أزدادُ ثقة، بأن الكلام الذي صبه في أذن صديقي هو في صالحي، وهذا ما كان.
أنهيتُ قراءة النصّ، ونزلتُ عن المنبر، أمشي صوبه، رحبتُ به، وقف ماداً يدَه صوبي، ثم قال: دعينا نراك يا صبية.
زُوّدتُ بالمكان حيث كان فندق الشاطئ الأزرق، والزّمان بعد ظهر الغد، هذا ما أكدّه صديقي بديع صقور.
قلتُ وأنا أودّعه: كيف لا أكون؟!.
ربتَ على كفي وجلسَ في مكانهِ، بينما تابع الآخرون برنامج الأمسية.
حين التقينا في البهو، كان ثلة من الضيوف يتناثرون على المقاعد والأمكنة، أشار الشاعر الكبير أن أدانيه. فأفسح لي أحدهم مكانه لأكون على شفا انعتاق من الارتباك.
ابتدر كلامه قائلاً: توظيفك للفينيق في النصّ الذي قرأتِه البارحة موفق. قلتُ: ما نحن فيه، لم أجد حاملاً له سوى الأسطورة، والرّمز إلى كل معاناة، أردتُ أن أجد طريقة لبث طاقة انبعاثية مُحرّضة في الموات الحاضر.
قال: قد حفلتْ قصائدي بهذا.
قلتُ: اهتمامُك بالعنقاء لافتٌ، تظهرُ وتختفي، ثم تظهر وتختفي.
قال : هل تذكرين شيئاً من ظهوراتها؟
هززت رأسي، وقلتُ:
«كلّ يومٍ نموتُ، وتحترق الخطوات وتولد عنقاء
ناقصة، ثمّ تحيا لتقتل ثانية
وسرحان كان أسيرَ الحروب، وكان أسير السلام».
هزّ رأسَه، ثم قال: أرأيت، كلما كان حرب تظهر، وكلما كان السلام تختفي.
قلت: أليس العكس صحيحاً؟!.
لم يجب، ولج في الصّمت، كانت عيناه مليئتين بمرارة الخيبات، وآثار منافٍ لا تُعدّ، حاولتُ أن أتبع فيهما أثراً للقصيدة المتألمة، كما أثر فراشته المتفجّرة بالطاقة المثقلة بروح الثورة والنضال.
رحتُ أتساءلُ بيني وبين نفسي: أيعقل أن يحمل هذا الجسد النحيل، كلّ هذه الأوجاع، أوجاع الزّهرة الوطنية، التي أسماها الكنعانيون بـ«جراح الحبيب» ؟ كيف له أن يبقى لاهثاً وراء احتلال يبتغي اجتثاث الوجود الفلسطيني، ولم يقدر بفضل قيامات الشاعر، وعباراته التي لا تموت:
«سأصيرُ يوماً ما أريدُ، سنكونُ يوماً ما نريد».
كان الصّمتُ مُرعباً بيننا، على الرّغم من أنني كسرته باتخاذي بعض الصور للذكرى معه، فبدا فيها وكأنّ شرايينه تحملُ إرهاقاً ومسافات كبيرة من غربة، ومع ذلك فحين يتكلم تحسّ بأنّ مفاتيحَ أسرارِ الكون في عباراته.
قدّمت له كتابي «ما بين زحل وكمأة» وانصرفتُ وأنا أحاول أن أتبع ظهورات عنقائه، التي كانت تتبع الانتفاضات والانتكاسات في القضية الفلسطينية، فمع كلّ ظهور ثمّة أمل وحلم، ومع كلّ اختفاء انكسار، ولعلّ أكبر الانكسارات كانت بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، حيث ماتت العنقاء وتجرّدت من مقومات الرغبة في الحياة ، حتى غدت انهياراً، رمز الشاعر بذلك إلى الغزو الإسرائيلي، الذي كان يتقدّم في أرض فلسطين حتى وصل لبنان، واحتل جزءاً كبيراً منها، وقد تخلى الجميعُ عن الحلم إلا الشاعر.
ظلّ يتمسّك بعنقائه مُحاولاً النهوضَ من جديد، وهكذا تعود لتختفي، تعود لتختفي..
تعودُ مع كلّ عملٍ فدائيّ، وتصاعد لفعلٍ سياسي.
وبقيَ الشاعرُ وحيداً يلملمُ أعواد الطيْب ليحرقَ نفسه، ويصبح رماداً:
«وحدي أدافع عن هواء ليس لي
وحدي كنت،
عندما قاومت، وحدي
وحدة الرّوح الأخيرة..»
كان صدى الوحدة يأكلُ ظهري، واحتراقات الشاعر ترتسمُ أمام خطوي، ترتقب ظهوراتٍ جديدة، تلك التي تعرف كيف تتخلق وتأتلق، لتشكل ملحمة نضال وهدير شعب، يخرج من مسام فلسطين.
لا تزالُ العنقاء في كلّ ظهورٍ لها تفتحُ درباً للأمل والتوق إلى الحلم، ولتتركَ أثراً أبديّاً على أصابعنا ونحنُ نتحسّس آخرَ ذرات الرّماد وهي تتحرّك من جراء ريشة تحاولُ الظهور.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن