الحبُّ فنّ
| د. نبيل طعمة
قضية قضايا الحياة التي لم تستثنِ أحداً إلا ومرت به هادئة أو عاصفة، ويبقى سرها منحصراً بالأنثى التي تؤمن بأن الحبَّ فنٌّ، وأنَّ عليها وحدها تقع مسؤولية فرد فنونه العظيمة المتجسدة في الإغراء والإغواء يوم ما استرقت سمعاً بالمصادفة، جرى مع أنثى تهتف لرجل أحبها، يبدو أنه اضطر لسفر فأطال الغياب، بدأت حديثها بلهفة المشتاق، لا تقل لي يا حبيبي إنك لن تأتي، فإنك آت لا محالة، اليوم أو غداً أو بعد غد، ولن أدعك تفارقني بعدها، بل ستعود إليّ في المساء كل يوم وكل ليلة، وأنا أنتظرك في اللباس الذي تحبه متبرجةً كما تود وتهوى، عاقصةً شعري بالشكل الذي تريدني أن أعقصه عليه، متأهبةً لإرضاء أهوائك، فإذا شئت حناناً منحتك، وهدهدتك كطفل صغير، وإذا رغبت في الصمت جلست إليك صامتةً، وإذا أردتني أن أُغني فسَأُسمعك أجمل الأصوات التي تحب أن تسمعها، وتسكن إليها، فمنها ما يشبه الهمسات الربيعية نعومةً، ومنها ما يحاكي رعد الشتاء وبرده القارس، ومنها الساذج الذي تُنشده الأم لوليدها، ومنها الخليع الذي يخجل لسماعه أهل أفسق الفسق، وأما في الليالي التي تحب أن أرقص لك فيها فسأرقص حتى الصباح، كيفما وددت أن أرقص كاشفةً عاريةً مسدلةً مقنّعةً سافرةً، فلقد تعلمت في غيابك كل أنواع الرقص، وعرفت رقصات قد تخجل منها جميع النساء، إلا أنا لأنها لك وحدك، كل ما تتخيله من النساء موجود عندي وحتى أحلامك مع من تريد أن تصل إليهن، سأحققها لك معي، لن أحدثك كثيراً عما ستجده عندي، فهناك من الأشياء ما أعجز عن وصفه، ثم هناك بعد ذلك ما يفوق كل الذي ذكرته حضر فقط، وسيذهلك حضوري أثناء استقبالي لك، أنت عرفتني ورأيت وجهي، لكنك لم تستكشف كل جمالي، كم ستحبني، ستتعبدني كما تتعبد الآلهة، كم سترتجف في أحضاني، وكم سيغشى عليك لفرط كلفك بي، ثم كم ستجد شفاهي شهية حينما تنتشي من قبلاتي، وأنا التي ستطوق عنقك بذراعين من العاج الثمين النادر، هل تأتي بعد كل هذا البوح؟ عدني بأن تأتي إليَّ مسرعاً، فأنا التي سأغمرك بالحب والقبلات، وأقدم لكل نفيس الحياة، بعد أن تمنحني شيئاً سيظهر عليّ بناؤك الذي سينساب إلى الحياة، يعمرها جيئةً وذهاباً، طولاً وعرضاً.
الوطن أنثى وأمٌّ وصديقة عاشقة، لا تتوقف مشاعرها وعشقها لأبنائها، ففيه التأثير الذي لا حدود له على حياة أبنائه الذي يشكل معهم البيت والعالم في وحدة مصيرية أثيرية، لا يمكن فصلها، تلتقي بذلك مع وحدة الوجود، تجسد أوضاع العلاقة ومهماتها ومثلها العليا في الحياة والقلق المخيف على هذه العلاقة، يحضر من طرق العمل لها والحفاظ عليها بجدارة دائمة وإكمال ما ينقصها، فلا يجب أن تكون سجينة في روح الأنثى تابعة، بل رفيقة رقيقة يتشاطران معاً الخير ونبذ الشر، فإذا كانت الحقيقة مسكونة في روح الأنثى، فمؤكد أنها موجودة في جوهر الوطن، لأنه كما هي يعرف وتعرف كيف تكون ويكون جبارةً وجباراً عند الغضب، مخيفةً ومخيفاً كالعاصفة الهوجاء عند الدفاع عن الحقوق المشتركة، وجميلاً نقياً وادعاً وأميناً بعد زوال العاصفة، يملؤها الإشراق وقوة الصفاء والنسيان من أجل الاستمرار إلى الأمام نحو الأفضل. فالأنثى التي تعرف استثمار الفن في الحب قادرة على الخلق والإبداع وتكون مصدراً للوحي والإلهام، فهي آيةٌ فنية لا تخفي الجمال إلا لتمنحه وتوحيه لمستحقيه، الإنسان الذكر يحب زهو الألوان، ويؤثر النشوة على المال والغذاء، هو هكذا أيضاً، الوطن لا يحب التردد، ويرفض الاستسلام، وفيه مصادر الوحي وسر أسرار قوة الحياة، وإن سكن هادئاً فإنما هو سكون البحر العميق، وبقدر ما يشتد الطغيان عليه بقدر ما تدنو ساعة هيجانه على الطغاة.
الحب بفنونه وحده يدعو للاستسلام بين ذراعي الوطن الأنثى، ومهما حيك من قيود يفلت منهم، لأن كبرياءه أكبر من قيد أو مكيدة، فالوطن كما الأنثى، لا يمكن أن يكون غابة، بل غاية في حد ذاتها، تستوحي روعته روعتها، من حيث كما تحدثت مصدر الإلهام الذي يستند دائماً إلى وحدة التجانس.
الإنسان الذي يفقد روحه، والإنسان الذي أضاع ظله، الاثنان يفقدان الاتزان، ويتجهان إلى الحياة بين الجنون والانتحار، ويمضيان في عيش الكآبة والسوداوية، أليست الروح تجسد الحب والظل القادم من سطوع الشمس والضوء، يعكسان الصورة على الأرض، وبهما ومنهما تتشكل صورة الوطن، أليس الحب يعني أن يهب المحبوب الحبيب كل شيء إلا جسده، لأن جسده يجب أن يكون له ظل، وظله نفسه المنطبع على كل شيء، وبشكل خاص لحظة أن ينطبع الظل على الحب، الحب الذي وسمته مجتمعاتنا بالحرام، لمَ لا نزال نعيب على بعضنا الحب؟ لماذا نُحرم منه؟ لماذا نحسّ دائماً بالوحشة والقلق وأحلام فضائية لا روح فيها؟ هل لأننا لم نتمتع بأخلاق فنون الحب؟ حيث إن مستوى الفنون عالٍ ورقيق وعظيم، والارتواء منها يجدد الظمأ إليها، إذا أردنا الحياة فعلينا أن نتمتع بأخلاق الفن، وبعدها يمكن أن نكون جديرين بأن نحب، وبه نتجه إلى النقاء والخدمة الإنسانية الخالصة لأوجه الحق والخير والجمال الموجودة في الذكر والأنثى، الظاهرة من تراب الأرض الوطن، ومنها كانت المثل العليا التي انعكست على البشرية نتاج الحب والعشق وفنونه اللامتناهية الأبعاد، حيث خلفت للحياة الدأب النشيط المفعم بالغرائز المتضاربة التي تثير الغرائب وتجدد الحماسة التي تجعلنا نسرع من أجل إعادة النور إلى قمرنا الباهت، وإلى أرضنا المدمرة بغاية إعمارها.
الحب نشيد الأوطان، لأنه حبٌّ حسيٌّ تجاه الأرض.. الوطن.. الإنسان، لنذهب جميعاً إلى الحبِّ، وسريعاً نتعلق به، ولنزخره بأحفل العواطف والأشواق، وليكن التعانق مكيناً، لأنه يحيا بين الزائل الفاني والخالد الباقي، لذلك كان كل شيء إلاك أيها الحب صاحب الفنون الراقية.