الفوضى اللاخلاقة
| د. علي القيم
عناوين كثيرة طرحتها الأزمة التي تمرّ بها سورية منذ أكثر من خمس سنوات.. ونجد من المناسب التوقف عند بعضها.. ما الحرية؟ ثقافة الحوار، التغيير وسبل الخروج من عنق الزجاجة، الرأي والرأي الآخر؟ الديمقراطية والتنمية المستدامة، الشرق الأوسط الكبير، تراجع العقل وتقدّم الغرائز، انهيار القيم، الإصلاح ومحاربة الفساد.
لقد أفرزت الأزمة نتاجات لانتهازيين كثر يمتهنون السباحة في دماء أبناء شعبهم، وتعتمر أحاديثهم وتصريحاتهم الابتسامات الكاذبة التي تهدف إلى نشر الفوضى، وتعزيز انهيار القيم ونشر الكراهية بين الناس، وتورث التشققات والإشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية الكبرى.
في أحاديثهم تتكرر لمناسبة، ومن غير مناسبة معزوفة الحرية والديمقراطية، التي تؤسس لتغيير أنظمة الحكم وفق الرؤية الأميركية التي تهيئ لإخضاع العرب لإسرائيل، وإعادة قولبة المنطقة وفق سياسة الهيمنة الأميركية… يحدثونك عن الصراع بين الخير والشر والأرض والهيمنة والسلطة والمصير، الذي تتحكم به قوى لا تحلل ولا تحرّم وتتميز بغباء عاطفي، وتبلّد عاطفي، وانحطاط أخلاقي لا حدود له.. يتجه في جميع مساراته وأهدافه وغاياته نحو خدمة مصلحة وآفاق ورؤى دولة إسرائيل التي تبحث منذ قيامها عن طرق وأساليب وظروف لإعادة ترسيم المنطقة العربية، وتقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية وقبلية وعرقية بما يتناسب مع طبيعتها وتكوينها الاستيطاني الإجرامي الإرهابي.. لقد وجدت ضالتها بعد تفكير طويل، ودراسات وأبحاث تاريخية، في تغذية الصراع الطائفي، وفي «الإسلاموفوبيا» وقد استطاعت بكل أسف وألم وحسرة، أن تنفذ من خلالها إلى داخل المجتمعات والأنظمة البالية، لتعبث بأمن واستقرار الأمة العربية، وتنشر فيها الخراب والدمار والإرهاب والانقسام، والجميع يعرف أن إسرائيل ما كانت لتنجح في مخططاتها وطموحاتها لولا الدور والدعم الأميركيّان الفعّالان والمنظّمان في هندسة وإدارة الصراعات والتناقضات، وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم سياسة الإمبريالية العالمية ومشاريعها الشرق الأوسطية، التي تهدف إلى السيطرة على مقدّرات الشعوب وثرواتها وطموحاتها وآمالها وأحلامها.
لقد أثبتت سورية بعد أكثر من خمس سنوات أنها أرض البطولة والفداء والشهادة من دون منازع، ولا نظير لشعبها الصامد، على الرغم من الدمار والويلات والقتل والإرهاب.. لقد صمدت ورفضت بكل قوة وثبات فرض الإملاءات عليها.. لقد رفضت الخطاب المذهبي والقبلي والطائفي.. لقد رفضت الموت الوحشي، الذي حاولت المجموعات الإرهابية فرضه على أي مكان أو أي منطقة وصلت إليها أو سيطرت عليها.. لقد رفض الشعب العربي السوري بكل فئاته وأطيافه وقواه، تحويل سورية إلى «كانتونات» تتحكم فيها ميليشيات حاقدة قادمة من شتى أصقاع الأرض.
المشكلة أن أكثر دول العالم لم تتحرك، ولم تتعاطف مع كل ما حدث ويحدث بفضل «الربيع العربي» الذي دمر البلاد وشرّد العباد، وأحرق الأخضر واليابس، لقد اختلطت المفاهيم والقيم، وأصبح الأبيض أسود، بفضل الإعلام العالمي المغرض الذي ساهم في التعتيم على ما حدث، وارتكب أخطاء قاتلة، دفاعاً عن مؤامرة كبيرة قادتها الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات تحت عنوان «الفوضى الخلاقة»، التي قصد منها خلخلة البنية السياسية والاقتصادية والمجتمعية لبعض دول الشرق الأوسط، وفق معايير تعزز الضعف والإرهاب، وتقوم بهدم النظم بالقوة وفق أفكار «الفوضى الخلاقة» التي أطلقتها «كونداليزا رايس» في عام 2004، وتبنتها مجموعة الثماني الكبار، التي أعلنت مرات عدة عن أهدافها في فرض التغيير لبعض دول الشرق الأوسط، وكان لها ما تريد، حيث اختلط الحابل بالنابل، وكانت «الحروب اللاخلاقة» التي هدمت كل مقومات الحياة، وشجعت العواصف التي تحولت إلى حروب مفتوحة، وما زال العرب ينتظرون المزيد.