ثقافة وفن

«سوراقيا» بعد قرن على انطلاقة تعيده المؤلفة ليكون منطلقاً … لا تحارب أميركا السنة أو الشيعة .. وإنما تتطلع لمن يحقق لها مصالحها صفية أنطون سعادة تبشر بنهوض سوراقيا لتشكل مع إيران قطباً

| إسماعيل مروة

وريثة فكر الزعيم أنطون سعادة، حملت فكر والدها وجعلته منهجها الفكري الذي لا تحيد عنه، وفي خضم ما تتعرض له الأرض العربية اليوم من حروب وخاصة ما يدعى بلاد الشام، تهب السيدة صفية أنطون سعادة لتجرد فكرها وقلمها للدفاع عن القيم والجغرافية كما رآها المؤسس، وقيض لها أن تعيش الفترة التي تأتي تالية لاتفاقية سايكس بيكو التي أجهضت حلمه في التأسيس لمنطقة مغايرة متمايزة، غادر وهو يحلم بسوراقيا، وها هي التحالفات الدولية تعمل على تفتيت المنطقة مجدداً، وبدرجة أعلى مما فعلت سابقا، ومن هنا تأتي أهمية ما كتبته وجمعت بعضه في كتاب يحمل عنوان: «سوراقيا- بديلاً عن سايكس بيكو» وما يحمل هذا العنوان من دلالات قوية تدعو إلى المجابهة وإحياء مشروع الزعيم سعادة، فهو عندها البديل عن الواقع المتردي الذي خلقته سايكس بيكو، وليس البديل الاستسلام للاتفاقيات الدولية التي تعمل على التقسيم وزيادته!

أمام الهجمة
تقرأ صفية أنطون سعادة الواقع قراءة فكرية أيديولوجية عميقة، وهي لا تنجرف وراء الظاهر من الأحداث، لذلك تعمل على تقديم مشروع عمل، ولا تكتفي بنقد ما يحدث على الأرض، وهذا ما جعل أفكارها وطروحاتها تحمل نوعاً من التفاؤل والتأمل بالغد القادم الذي عليه أن يجابه وألا يركن «إن هجمة الولايات المتحدة الأميركية على سوراقيا بعد أحداث أيلول 2001 ستؤدي إلى توحيدها على عدد من الأصعدة، ذلك أن التعاون فيما بينها أساسي لإنقاذ نفسها من الاندثار، فمن الحرب على العراق واحتلالها عام 2003 إلى الحرب على حزب الله عام 2006، ثم الهجوم على غزة بعد محاصرتها سنين، وأخيراً محاولة إسقاط الدولة السورية بوساطة الإرهاب، كلها برهنت أن لا مكان البتة للهرب من هذا المد الجارف، وبالتالي قدرنا المواجهة، والانتصار ممكن بالعمل معاً، لا بل هو حتمي لأن هذه هي أرضنا وهويتنا، بينما هم المغيرون الذين يجب صدهم ودحرهم».
هذا المقطع الذي أخذ من كتابها يظهر الواقع ونظرتها أي نظرة الحزب والزعيم للمجريات على أرض الواقع، وهي تؤسس للحديث عن واقعه من دون إغفاله، وفي الوقت نفسه فإن صفية لا تحصر دعمها في المتوافق معها أيديولوجياً، بل تتحدث عن الجغرافية، بغض النظر عن الخلافات مع حزب الله وغزة من النواحي الأيديولوجية، وعن الخلاف مع الأحزاب الحاكمة في بلدان يضمها مصطلح سوراقيا، وتضع حلاً واحداً هو التوحد، لأن القدر واحد وغير متعدد وهو المواجهة للدفاع عن جغرافيتنا، وهي الأساس الفكري الذي تنهض عليه رؤية الحزب، وهذا ما تؤكده العبارة الأخيرة من أن الأرض والجغرافية لنا، والمغيرون علينا يجب دحرهم لأنهم أغراب، ويتضح ذلك من خلال الصفحة الأولى من الكتاب، فالكاتبة لا تطرح دعوتها من دون أن تبدأ من تعريف أنطون سعادة لسوراقيا الجغرافية التي اعتمدها «تضم سوراقيا بشكل رئيس كلاً من فلسطين المحتلة، والأردن وسورية ولبنان والعراق، وكانت تعرف بـ«بلاد الشام» والعراق، حتى نهاية السلطنة العثمانية، إلا أن بريطانيا وفرنسا قررتا تقسيمها بحسب اتفاق سايكس- بيكو عام 1916، والاستيلاء على فلسطين وإعطاءها لليهود الأوروبيين، كما وعدهم اللورد بلفور عام 1917… منذ ما يقارب القرن استنبط أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي اسماً جديداً للدلالة على وحدة منطقة الهلال الخصيب الجغرافية، فاستعمل مصطلح «سوراقيا» بدلاً من سورية الطبيعية أو سورية الكبرى».

الرؤية الشمولية
إن ما لفتني إلى هذا الكتاب، وجعلني أقرؤه بتمامه وأعرض لأفكاره تلك الرؤية الشمولية التي ترتبط بالأيديولوجية التي بدأت مع مؤسسها، لكنها لم تتراجع، وإن دخلت في مرحلة الكمون والهدوء والثبات، وهي لا تقصد الحديث من هجمة الولايات المتحدة أو أوروبا أو أي كتلة من الأقوياء، بل تقف عند كل الآراء المطروحة، والآراء المستنبطة عن الأخطار والضرورات للمواجهة، فوقفت عند القومية والتعددية الدينية والإثنية، مبينة أن حصر الانتماء في الفكرة القومية قد يكون غير مجد مع التعدد «فشل المتحد الجغرافي القومي في استيعاب الإثنيات أو الأديان المختلفة، فبدلاً من التركيز على بناء مجتمع منفتح يحتضن عضوية كل ساكنيه بمعزل عن دينهم أو مذهبهم أو أصولهم الإثنية، تلجأ الدولة إلى إقصاء أو عزل مجموعات مختلفة إثنياً أو دينياً عن العملية السياسية ومراكز القرار»! وكأني بها تحدد أسباب إخفاق مفهوم الدولة القومية ومشروعها في القرن السابق أو في العقود السبعة الماضية.
وتقف عند الصراع المذهبي السني الشيعي المخادع، ثم مع تقاسيم صهيونية، وأربيل مركز المملكة الآشورية، والديمقراطية التوافقية، ومع التنظيمات التكفيرية، وعند عروبة سورية والتحدي، وعند الفكر التكفيري وتعزيز فكرة صراع الحضارات، ومع صمود سورية أمام الأحادية الأميركية.. هذه الرؤية الشمولية تجعلنا بحاجة إلى قراءة الكتاب بتمعن لأنه لا يقصي فكرة من الأفكار، سواء اتفقت مع حزبها وفكر أنطون سعادة أم لم تتفق، ولعلّ أهم ما يلفت الانتباه ذلك القسم الذي يرى أن سوراقيا وإيران من الأهمية بمكان أن توجدا فماذا عن العلاقة بين الصراعات المذهبية التي صورتها؟ وهل تخرج إيران عن هذا الإطار؟ وكيف تهيأ للفكر الذي تحمله أن يعقد رأياً له أساس ديني أو مذهبي أو قومي؟!

الوجود الأميركي الطاغي
لا يمنع صفية سعادة وهي الدارسة للشرق في الجامعات الأميركية أن تحدد معالم الوجود الأميركي في المنطقة الممتد في الزمن السابق، من دون أن تحمل شعاراً براقاً في العداء لأميركا بشكل مرضي «يكمن الحل في مقاومة السياسة الإمبراطورية الأميركية الغاشمة التي حكمت منطقتنا ستة عقود متتالية، قضت فيها على كل محاولات ترسيخ مفهوم القومية الجامعة،
لأنه يتعارض مع مصالحها السياسية والاقتصادية، واستبدلت ذلك بطغيان النموذج الإسلامي الوهابي المتطرف، وصدرته إلى جميع أرجاء العالم تهدد به الدول القومية التي تحاول الاستقلال بقراراتها» فالأمر أعمق وأقدم من هجمات أيلول، ومن احتلال الكويت، ومن احتلال العراق، إذ ترى الكاتبة أن الموضوع قديم جداً، يمتد لستة عقود، أي منذ بدء الاستقلالات العربية، وتشكيل ما يسمى بمفهوم الدولة، فقد عملت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت ووفق خطط قديمة على تشكيل مفهوم الردع للدولة القومية الجامعة، مستعينة بالمشروع الإسلامي وهو ليس مشروعاً فكرياً تنويرياً، وإنما هو مشروع وهابي متطرف، ولم تكتف الولايات المتحدة بزرعه في بيئة خاصة، بل قامت بتصديره إلى شتى الدول التي تحاول أن تستقل بقراراتها بعيداً عن المصالح الأميركية، وهذا ما جعل التناغم قائماً بين المشروعين الأميركي والصهيوني، وهذا ما ذكرته الكاتبة بوضوح «يغادر رؤساء الولايات المتحدة مناصبهم، ويحل مكانهم رؤساء جدد إلا أن الخطة الأميركية للشرق الأوسط لا تتغير، بل تبقى هي هي، لأن لا خطة للولايات المتحدة مختلفة عن الخطة الإسرائيلية، فكل من يهدد «إسرائيل» يمثل تهديداً للولايات المتحدة الأميركية، ومنذ أربعين عاماً لا يهدد «إسرائيل» إلا سوراقيا وإيران، ومعهما المقاومة في لبنان وفلسطين».
فالكاتبة، هي تنطلق من موروث فكري وأيديولوجي، صفية أنطون سعادة تحدد هذا المشروع الذي يتهدد المنطقة العربية، وسوراقيا ضمن هذه المنطقة حسب رأيها الأيديولوجي، وتنفي مشروع الطائفية من وجهة نظر المشروع الأميركي الصهيوني، ولكنها في الوقت نفسه لا تنفي وجود هذا المشروع، فكما أشرت سابقاً حددت البديل من الدولة بأن قامت أميركا بزرع مشروع ديني، واستطاع هذا المشروع أن يتقدم كثيراً اعتماداً على الأرض التي مهدت له، من جهل وتوابعه، حيث حلّ المشروع الديني والطائفي محل أي مشروع بديل، فهو الأسهل، وهو الأقرب إلى الإفهام، وهو الذي يستثير الغرائز والرغائب لدى عامة الناس، وبعد أن تفرغ الجعبة الاستعمارية مما أرادت تحقق مشروع السيطرة المشترك الأميركي- الصهيوني، ومشروع المصالح التي لا تعرف عدواً دائماً، ولا تعرف صديقاً دائماً، ونلحظ هذا الاستنتاج العلمي الذي قدمته صفية سعادة «استخدمت الولايات المتحدة الأميركية دولاً إقليمية للقيام بهذه المهمة، فبادرت تركيا وقطر إلى تمويل المسلحين والإرهابيين لإسقاط النظام في سورية.. عند هذا الحد انخرطت الولايات المتحدة الأميركية في مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي ما استتبع غضباً شديداً من «إسرائيل» والسعودية لكونهما متضررتين من التسوية الأميركية – الإيرانية… لا تحارب الولايات المتحدة الأميركية السنة أو الشيعة، أو أي دين أو مذهب، آخر، فهي تتطلع إلى من يؤمن لها مصالحها، وهي تحارب إيران ليس لأنها شيعية «وكانت علاقة أميركا بإيران وثيقة جداً أيام الشاه» بل لأنها دولة استطاعت أن تحرز استقلالها القومي».
وحين تختم صفية سعادة كتابها تختمه بمقولات مهمة، حبذا لو قرأها أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية قبل خصومها «الوقائع على الأرض هي التي تغير السياسات الأميركية ولا شيء آخر» وها نحن نرى مصداق هذا القول في كثير من الوقائع التي جرت على امتداد الحرب على سورية.
«سوراقيا» كتاب يحمل الكثير من الأمل، وبأن توحد الدول التي تحمل هذه الأبعاد والأيديولوجيا، مع إيران سيشكل منطقة خاصة وقوية، وسواء كان أحدنا من أصحاب هذه الأيديولوجيا أم لم يكن، فعليه أن يقرأ هذا الكتاب الغني الذي يأتي قراءة أيديولوجية بعدما يقارب القرن من الزمن على انطلاق مصطلح سوراقيا، وبعد انهيار أيديولوجيات أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن