المزاج الحضاري
د. علي القيّم:
للمفكر والفيلسوف الراحل عادل العوا (1921-2002م) مؤلفات ودراسات وأبحاث عدة تتناول شخصية الأمة العربية وأصالتها وحقيقة تواصلها مع ذاتها ومع الأمم الأخرى والشعوب المتباينة، وهو بذلك يحاول إماطة اللثام عن المزاج القومي العربي المميز بين قطبي العسر واليسر، والإجابة عن مجموعة من التساؤلات، التي تبدأ بالتنقيب عن مزاجنا القومي من منظور حضاري لعلنا نغير ما بأنفسنا نحو الأفضل، ونغير بذلك ما في وجود الناس مؤثرين ومتأثرين.
يرى الدكتور العوا أن حياة الأمزجة في الواقع العربي- التاريخي هي ذاتها جدل الأمزجة وتفاعلها في حياة الإنسان عامة، وفي أصدائها السلوكية، أي حضارتها ولا سيما أن الحضارة هي الجانب المتحقق من المطلب الإنساني في تجربة حياة البشر الاجتماعية التاريخية، وهذا هو مطلب إبداع الإنسان بما تهدف إليه الأخلاق، ولعل المزاج الحضاري القومي للأمة العربية يتجلى في آخر المطاف عبر استقطاب إمكاناتها في مضمار ثقافتها العريقة وأصالتها التليدة.
في بحثه عن سلوك الأفراد والجماعات في كثير من الوقائع التاريخية العربية، وفق الظروف والمعطيات، التي تؤكد على التسامح الديني، والانفتاح العقلي بقبول الرأي الآخر في مجالات السياسية والحرب والفكر، من منطلق «لا إكراه في الدين» الذي نادى به القرآن الكريم، وعلى هذا المبدأ سار العرب والمسلمون في حروبهم وعلاقاتهم السلمية مع أهل الأديان الأخرى، فقد كانوا يبيحون لأهل البلد الذي يفتحونه أن يبقوا على دينهم مع أداء الجزية، وكانوا في مقابل ذلك يحمونهم ضد كل اعتداء، ويحترمون عقائدهم وشعائرهم ومعابدهم.
من مظاهر التسامح في السلوك الديني أن كثيراً من الكنائس كان يصلي فيها المسلمون والمسيحيون في وقت واحد، إبان الفتح الإسلامي، وقد رضي المسيحيون عند فتح دمشق أن يأخذ المسلمون نصف كنيسة (يوحنا) التي أصبحت الجامع الأموي الكبير، فيما بعد، ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم، فكان أبناء الديانتين يصلون متجاورين… هؤلاء يتجهون إلى القبلة، وأولئك يتجهون إلى الشرق.. ومما يذكر في هذا المجال، الوظائف التي كانت تعطى للمستحق الكفء بغض النظر عن عقيدته ومذهبه، وكان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي، موضع الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في دمشق وحلب وغيرهما زمناً طويلاً.
في دراساته يكشف لنا الدكتور العوا عن معلومات وأخبار كثيرة مستمدة من التراث العربي عن المزاج الحضاري العربي الجمالي في أدب الدنيا والدين، وهذا ما أكده الرأي العربي مند البدء، حيث أكد هدفين هما:
الاستقامة في الدين وبها تصح العبادة، والآخر صلاح الدنيا وبه تتم السعادة، والفكر الكلامي العربي، كان وثيق الاتصال بوقائع التاريخ العربي، ويعكس مشاغل الحياة الفكرية اليومية بل التصورية، والغيبية في مشكلات الدنيا والدين.. لقد مرت الحقب والقرون وحدثت تطورات عميقة بل طفرات، وأصبح الحاضر العربي يعكس أصداء ثقافة موروثة، وأمزجة فردية وقومية منفتحة على الثقافة العالمية وعلى القديم والجديد، والأصالة والمعاصرة، والتراث والتطور أو المحافظة والثورة.. وفي جدل تحليل هذه الثقافة، وهذا المزاج في جوانبه المعرفية والسلوكية، نرى أنه لم يخل في الماضي، من نزوع كبير إلى اليسر والمحبة والعدل والتسامح والانفتاح على الآخر.
أما الآن بفضل ساسة «القوة الناعمة» و«الفوضى الخلاقة» والاستلاب الحضاري وسياسة الترهيب والترغيب، فإلام نراه آل وسيؤول.. وبكل أسف لقد أفسدت الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية العالمية كل شيء، وأصبح المزاج الحضاري العربي والعالمي في حالة لا يحسد عليها.