سامحوني الحياة لم تعد تطاق…حققوا ما أرادوا.. وضعوا حداً لحياتهم فهل كانوا سعداء؟!
ديالا غنطوس:
عندما يصبح الموت هدفاً وتصبح الحياة عبئاً، ماذا يبقى بعد؟ عندما يتحول شعاع النور إلى غيمة من الألم، وعندما تصبح الموسيقا إرهاقاً للروح، ماذا يبقى بعد؟ دقات الساعة تصبح مطارق تقض مضجع سامعها، وجوه الناس والأحباء تتحول إلى وحوش بشرية، عندما يفقد الإنسان أي لذة ورغبة في الحياة بكل مفاتنها، بكل جمالياتها التي تنادينا للتمتع بها، بكل موسيقاها التي تكتسح العالم طولاً وعرضاً، بكل وجوه البشرية التي تنتظرنا لنلقاها، بكل الحب الهائم في الجنبات، الباحث عن قلب يسكنه ويركن إليه، عندها فقط يقرر الإنسان اعتكاف الحياة والرحيل، رحيل إلى موت يرى فيه حياة أخرى أكثر هدوءاً وسكينة. قد يظن البعض أن أكثر الذين انتحروا حول العالم هم من الفقراء والمفلسين، لكن التاريخ يخبرنا عكس ذلك، إذ إن قائمة المنتحرين من المشاهير تطول وتطول، لتضم بين طياتها أسماءً لأشخاص عاشوا أمجاداً ذهبية يحلم بها الملايين، فما الدافع لانتحارهم إذا؟ هل هو الحب الضائع؟ الأمل… الألم الخفي.. أم إنهم امتلكوا كل شيء باكراً ولم يعد هنالك مما يصبون إليه في هذه الحياة، فقرروا الرحيل إلى عالم آخر يضم أمجاداً جديدة؟ يبقى السؤال معلقاً بين شفاههم الباردة وتبقى ذكراهم خالدة في قلوبنا.
مونرو والانتحار
تطول قائمة المشاهير الذين تغلبت عليهم فكرة إنهاء حياتهم وإيقاف المعاناة، ولعل أشد تلك الحالات وقعاً على نفوس المعجبين كان خبر انتحار أسطورة السينما مارلين مونرو، بعد أن بلغت من الشهرة مبلغاً جعلها تتربع على عرش السينما العالمية، وباتت رمزاً للإثارة والأنوثة، لكنها على الرغم من المجد الذي نالته لم تكن تنعم بحياة هانئة، بل كانت تعاني من الكآبة والقلق الحاد الذي تحول لاحقاً إلى هستيريا، وفي عام 1960 قبل عامين من وفاتها كتبت مونرو رسالة تظهر من خلالها مقدار التعاسة الذي وصلته، قالت فيها: «لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقة تماماً، بل إنني زيفٌ مفتعل ومصنوع بمهارة، وكل إنسان في هذا العالم يراوده هذا الإحساس بين وقت وآخر، ولكني أعيش هذا الإحساس طيلة الوقت، بل أظن أحيانا أنني لست إلا إنتاجاً سينمائياً فنياً أتقنوا صُنعه»، رحلت بعدها مونرو حين كانت تبلغ من العمر 36 عاماً، بعد تناولها كماً كبيراً من الحبوب المنومة.
هزم البحر ونفسه
«الحياة صارت كئيبة»، هي بضع كلمات كانت آخر ما تركه لنا الروائي الأميركي العظيم أرنست همنغواي، صاحب رواية «لمن تقرع الأجراس» التي حققت نجاحاً باهراً وتجاوزت مبيعاتها المليون نسخة في السنة الأولى لنشرها، ورواية «العجوز والبحر» التي حاز من خلالها جائزة نوبل للآداب، كان همنغواي من أعمدة الأدب العالمي واشتهر بكتاباته الروائية والأدبية، لكن دربه أوصله إلى حياة الوحدة في سنواته الأخيرة التي قضاها في كوبا، وقد عانى من اضطرابات عقلية دفعته إلى اتخاذ قرار الخلاص من الحياة، حيث وجه بندقيته إلى رأسه وضغط على الزناد فسقط صريعاً، منهياً بذلك حياة كانت يصفها بالتعيسة والكئيبة. الأمر ذاته تكرر مع الروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف، التي كانت أحد أهم الرموز الأدبية في القرن العشرين، واشتهرت برواياتها التي تخاطب الضمير الإنساني، إلا أن شعبيتها لم تقف في وجه الاكتئاب الذي نال منها، خصوصاً بعد تدمير منزلها في لندن خلال الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى الاستقبال البارد لروايتها الأخيرة، فاعتبرت أنها باتت عاجزة عن الكتابة، ارتدت معطفها الذي ملأته بالحجارة الثقيلة، وأخذتها خطواتها إلى نهر قريب من منزلها وأغرقت نفسها فيه، بعد أن تركت رسالة لزوجها تخبره فيها «سأفعل ما أراه أفضل».
حدُّ الشقاء الموت
تتشابه الأسباب والنتيجة واحدة، حيث لم تشفع شهرة الرسام الهولندي فان غوخ له عندما تيقن من ضرورة وضع حد للشقاء النفسي الذي كابده، صاحب أغلى اللوحات ثمناً في العالم لم يجد في مشوار حياته أي قدرٍ من السعادة يرضيه، اجتاز نوبات من المرض العقلي، قطع أثناء أحدها جزءاً من أذنه اليمنى، ازدادت تعاسته بمرور الأيام، فآثر الرحيل على البقاء، وأطلق رصاصة من مسدسه استقرت بصدره ليموت بعدها بيومين، بعد أن همس بكلمات في أذن أخيه الأصغر قائلاً «إن الحزن يدوم إلى الأبد». الحزن ذاته الذي أصاب كريستينا أوناسيس ابنة أحد أكبر أثرياء العالم الملياردير اليوناني أرسطو أوناسيس، والتي قادت بعد وفاته إمبراطوريته التي أسسها، توالت الملمّات على كريستينا بدءاً من وفاة أخيها وانتحار والدتها ومن ثم وفاة والدها، والطلاق الذي كان مصير زيجاتها الأربع، أدى كل ذلك إلى اكتئاب حاد لافتقادها الطمأنينة والاستقرار، اللذين لا يعوضهما ثروة ولا مال، فانتحرت في شاليه قرب بيونس أيريس في الأرجنتين عن عمر يناهز 37 عاماً، بعد أن تناولت جرعة زائدة من الحبوب المنومة. القرار نفسه اتخذته المغنية الإيطالية المصرية داليدا، التي اختارت فرنسا وطناً بديلاً استقرت فيه وحققت شهرة وانتشاراً يفوقان الوصف ونالت الكثير من الجوائز العالمية، لكن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق السعادة، فاعتزلت عالم النجومية واستسلمت لبؤسها ويأسها، وانتهى بها الحال بأن فارقت الحياة عن عمر 54 عاماً بعد تناولها كمية كبيرة من العقاقير المنومة، ووجدت بجانبها ورقة كتبت فيها «الحياة لا تحتمل.. سامحوني».
من الابتسام إلى الموت الساخر
ومنذ فترة ليست ببعيدة وقع علينا خبر انتحار روبن وليامز أحد أهم أعلام الكوميديا العالميين، الذي لم يتمكن من رسم البسمة على شفاهه كما رسمها على وجوه الملايين من محبيه، فكان خير مثال على مصطلح «المهرج الحزين»، وعلى الرغم من نجوميته وشهرته إلا أنه عانى تقلبات حادة في المزاج سرعان ما تطورت إلى اكتئاب مزمن وقلق مفرط، ما دفعه للوحدة والعزلة والإدمان على تعاطي الكوكايين والكحوليات، لم يصمد وليامز في وجه رغبته بالرحيل، فحاول الانتحار بدايةً بقطع شريان يده بسكين صغير، إلا أنه لم يفلح فلجأ ومعصمه ملطخ بدمه إلى شنق نفسه بحزام البنطال الذي كان يرتديه، ليفارق الحياة على الفور، وقد قال وليامز يوماً «اعتدت الاعتقاد أن أسوأ ما في الحياة هو أن ينتهي بك المطاف وأنت وحيد، لا ليس كذلك، إن أسوأ ما في الحياة هو أن ينتهي بك الأمر لتكون برفقة أناس يشعرونك بالوحدة».
الطب عجز عنه
كما طالعتنا الأخبار في شهر نيسان من العام الحالي، بنبأ إقدام فردريك براندت على الانتحار، وهو الطبيب اللامع المختص بالأمراض الجلدية وعمليات التجميل، اشتهر فردريك باسم «بارون البوتوكس» في الولايات المتحدة الأميركية، وكان يقصده المشاهير والأثرياء وأغلبهم من النساء من كل أنحاء العالم، وعُرف منهن مادونا وكيلي ريبا وغيرهن، يقال إنه أقدم على الانتحار إثر غضبه من تصويره بشكل ساخر في برنامج تلفزيوني، فضلاً عن معاناته الاكتئاب المزمن والإحباط، وقد وجدته الشرطة مشنوقاً بسلك ومنشفة حول عنقه.
وفي نهاية المطاف، تتكون لدينا قناعة بأنه- في بعض الأحيان- يتطلب قرارنا بالاستمرار في الحياة جرأة تفوق الجرأة اللازمة للإقدام على الانتحار، وإن بدا لنا أن كلا الأمرين أحلاهما مرُّ.