الأم تزرع إنساناً
| إسماعيل مروة
قضيت عمري متصالحاً مع الآخر، والداي زوداني بالحب للآخر، فلم أستطع أن أحقد أو أكره، بل لم يعطياني الفرصة لأفكر بإساءة أحد إليّ، مهما كان هذا المسيء، وأخص أمي الصابرة المحتسبة على الزمن بكثير من الاعتراف بأن بذرة التسامح والحب من صنعها وحدها، ولا أحد استطاع أن يفعل بي ما فعلت، دون كلام، دون نصح أو توجيه، فقد كانت كثيرة الدمع قليلة الكلام، كثيرة الالتزام والتعبد، قليلة التمسك بمظهريات لا تخرج من الوجدان، ويا كثر ما تعلمت من هذه الأم التي عاشت عظيمة متألمة، وغادرت شامخة متألمة.. وكم سمعت من كلام في طفولتي المعذبة كان وحده قادراً على جعلي من الحاقدين، وكلما هرعت إلى صدر أمي أجد معها ما يغسل كل ما علق بالنفس والروح من ألم، فأخرج مولوداً جديداً.. وهذا الدمع جعلني مسالماً إلى درجة لا تصدق، فما من مرة استطعت أن أتشاجر مع أحد، وكم من شجار افتعله أصدقائي في المراحل الدراسية، خاصة عند دراستي خارج قريتي، وكنت الذي يتلقى الضربات ولا يرد أبداً، لأن أمي علمتني أن الصفع مخالفة لما كرمه الله من الإنسان، وأنه لا يجوز أن يضرب الإنسان أخاه أو يشتمه! جرت عليّ هذه التربية من أمي الكثير من القضايا والعقوبات، ولم أستطع مع توالي السنوات، ومع انتقالي من مرحلة عمرية إلى أخرى أن أتخلص مما علمتني أمي، وحتى عندما صرت أقدر على فعل شيء ما لم أفعل، وبقيت على ما أرضعتني، وصادفت في حياتي العملية من كان قدوة فالراحل ياسر عبد ربه أستاذي وقدوتي، علمني أن المركب الذي لا شيء فيه لله يغرق، فكان كثير العطاء، قضى حياته ولم ينشئ خصومة مع أحد لتصالحه مع الناس، وقبل أن يكون أثره كبيراً بحجمه على أن يكون أكبر بخصومات وما شابه.. وبعدها عشت عمراً مع رئيس تحريري الصديق وضاح عبد ربه، فرأيت حدبه على الآخرين، وخشيته على أرزاق الناس، وحرصه على عدم ظلم أي شخص يعمل معه، وأشهد أنه ما من أحد أعفي من عمله إلا إذا أراد هو الرحيل!
وكم من قضية ثار لها الآخرون، بينما هو كان يمارس هوايته بالتوقيع على ورقة جانبية ليفرغ فيها شحنة غضبه، وليخرج بعدها قراره أو رأيه بمنتهى الحصافة.
قد أكون محظوظاً بهذا التدرج من منزل إلى عمل، وهذا العمل رافقني مع الأستاذ ووالده منذ أول عهدي بالعمل، ولم أغادره، وأظني لن أفعل ما دمت قادراً على العمل، وقد لا أكون محظوظاً حسب رأي كثيرين، فبعض أصدقائي يأخذ عليّ هذا التصالح، ويرى أنه أثر على تكويني وعلى آرائي، فهو أو هم يريدون مني أن أكون أقل تصالحاً.. هذا في الوقت الذي جلب النقد الذي أمارسه كثيراً من الخصومات والعداوات، وحرمني من الكثير.. لكنني فخور بهذا التصالح الذي جعلني كما أرى إنساناً أحبه، فأنا صديق للشيخ والخوري، وللمفتي والمطران، للبعثي والشيوعي، للقومي واليميني، للعبثي والملتزم، للمثقف وغير المثقف، لقريبي والبعيد، بل عندما أقرأ كتاباً أو نصاً لأي شخص أقرؤه دون النظر إلى انتمائه، فما هو جيد أقف عنده وإن كان مخالفاً لرأيي، وكان المهم عندي في كل مرحلتي العملية ألا أعجب بأي رأي يلغي الآخر حتى لو اتفق مع رأيي، وهذا ما أبعدني عن الأوساط الإقصائية مهما كانت، وفي أي ضفة كانت!
وضعت ملاحظات علمية كثيرة، رآها بعضهم حروباً، وهي لم تكن قط حروباً، بل كانت مجرد ملاحظات قابلة للقبول والرد، لكن الذين رأوا الأوطان متطابقة مع ذواتهم رأوها حروباً وخيانة للوطن!!
وإن حدث والتقيت بهم من منطلق أنك تضع ملاحظات ولا تخوض حروباً، أشاعوا أنك صرت مضموناً وفي جيبهم، وهم في قراراتهم أن جيوبهم لا تتسع للتصالح الذي تعيشه.. والآخر يرى أنك تنازلت عن حربك، وعبثاً تحاول إقناعه بأنك لا تخوض حروباً، وإنما تضع ملاحظات وتضع فكراً، وهذه الرؤية حرمت ثقافتنا من قبل من الاستفادة من المازني والعقاد وشوقي وحافظ، من طه حسين والرافعي والزيات، وذلك لسبب وحيد هو أنهم وصفوها بالمعارك النقدية والحروب الفكرية، ولم يضعوها في مكانها اللائق والحقيقي.
يريد صديقي ونديمي أن أكون أنا، وعبثاً حاولت إقناعه بأنني أعيش حقيقتي وخرجت من الجلسة غير منشرح الصدر، ثم ما لبثت أن عدت إلى طبيعتي، فأنا حقيقي في تصالحي، حقيقي في ملاحظاتي، لا أتراجع عن أي ملاحظة، لأنها ليست ملاحظات شخصية، بل ملاحظات علمية، إلا إذا افترضنا أن نقد النتاج هو نقد لشخص منتجه!
أعلن كل شيء، اخسر أصدقاءك، اخسر أسرتك، اخسر عملك، ادفع حياتك ثمناً لتكون مهماً، كذلك أعلن صديقي، وهنا خلافنا الأكبر، فأنا أرى الحياة متعة وفائدة وعلماً، لذلك أبحث عن هذه المتعة، وعن هذا التصالح بطريقتي لأعيش سعيداً، وليست سعادتي بأن أكون مهماً على أشلاء الآخرين، ولا أن أكون مهماً فرداً لا يقترب مني الذين أحبهم!
أسأل نفسي وأنا أرى كم الكره والحقد الذي يحيط بنا، حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، ماذا يفيدك هنا الاعتداد، وأنت خسرت كل من حولك؟ أليس هذا الموقف الحاد من الآخر هو سبب ما وصلنا إليه من حروب وعبثية.
شكراً صديقي لكل ما قلت، وشكراً لأنك أخبرتني بأنه بعد سنوات من المعرفة ما أزال غائماً في نظرك، ولا تستطيع فهمي وتفسير قدرتي على المجاملة، وشكراً لأنك أخبرتني بأنني لن أنال احترام الناس الذين نقصدهم، بهذه الطريقة في الحياة أعلمك أيها الصديق أنك أنرت طريقي وجعلتني أكثر تصالحاً، فبعد ساعات من جلستنا نظرت في أمري فوجدتني أكثر قدرة على الحب والعطاء، ولم أر في ذاكرتي أي شخص ممن ترى أنهم لن يحترموا تصالحي، فهم ليسوا في دائرة اهتمامي!
كل ما في دائرة اهتمامي ينحصر في الحب لكل شيء، وفي التصالح مع الذات والآخر، والذات أهم وسأبقى ممارساً لملاحظاتي سواء أخذ بها من تقصدهم أم لم يأخذوا.
يبدو أن المراجعة كانت ضرورية، وترتيب الأوراق كان مهماً، وأعلمك صديقي بأنه عندما انتهيت من ترتيب أوراقي لم أجد سوى التصالح والحب، ولا أريد شيئاً من أحد، لا أريد أن يقال عني بأنني كاتب أو ناقد، يكفي أن يقال: إنني محب ومتصالح مع ذاتي، وأعرف أسلوب حياتي، ولو أراد بعضهم وصفها بالسلب، فأي وصف يحتاج إلى دليل بل يحتاج إلى من يقترب من الآلهة بمواصفاته، أما أنا فأوقن أنني إنسان، ولا أريد أن أكون في مرتبة أعلى من مرتبة الأنسنة.