بين خطاب الأسد واجتماع طهران: اقرؤوا ما بين السطور
| فرنسا – فراس عزيز ديب
قد يبدو الأمر عادياً أن تخرج الولايات المتحدة بعد خطاب الرئيس الأسد أمام مجلس الشعب لتختصر كلَّ ما قاله بعبارةٍ: (الأسد ما زال متمسكاً بالسلطة)، منطقياً كُنا سنستغرب لو أنها علَّقت بغير ذلك. أما أن يخرج بعض الكتَّاب والصحفيين من أصحاب نظرية «الوسطية» للقول إن خطاب الأسد لا يُفهم منه وجود خطةٍ متكاملة للخروج من الأزمة، فهذا يعني أن المشكلة تبدو في الفَهم وليست في الخطاب، لأن ما جاء في الخطاب واضح ولا يحتاج إلى شرح، وبمعنى أدق هو استمراريةٌ لكل الخطابات السابقة التي وضعت أسس الحل السياسي المترافق مع استمرار المعركة مع الإرهاب.
هذان الأمران لم يكونا الوحيدين الذين طبعا آلية التعاطي مع خطاب الرئيس الأسد، فهناك أحد أصحاب نظرية «التلون في المواقف»، أراد استغلال الحديث عن الخطاب للإيحاء وبشكلٍ غير مباشرٍ للمتابع العربي بأن السوري لا يستطيع قول رأيه بحريةٍ، بما فيها إمكانية أن يتحدث عن «سلبياتٍ» في خطاب الأسد. طبعاً لم يكن الهدف من هذا الإيحاء الذي يدخل في إطار «الوقاحة الإعلامية» هو الحرص على السوريين، لكنه حرصٌ على تقزيم المجتمع السوري ومن يمثلهُ في الرأي.
تبدو هذه المقدمة ضرورية، ليس الهدف منها فقط إعادة البعض إلى حجمه الطبيعي، والقول لهم إننا لا نرد عليكم في كثيرٍ من الأحيان لأن لدينا ما هو أهم، لكن لأننا نريد أن ندافع عن أنفسنا، فهذا الاستخفاف يعني فيما يعنيه بأن أي كاتبٍ أو باحثٍ سوري هو تابعٌ لا يقول ولا يتحدث إلا بما تريده السلطات منه، وهذا مجاف للحقيقة، مع التأكيد هنا أننا نتحدث عن الكُتاب والباحثين الذين لديهم دراسات ومقالات، ولا أتحدث عن كل من أسبغَ عليهم الإعلام الرسمي هذه الصفة، لأن هذا التهريج في منح الألقاب هو من ساهم بتطاول الجميع على أصحاب الرأي الحقيقيين وتقزيم أفكارهم.
بالتأكيد نتفهم سعي هؤلاء إلى تقزيم النتاج الفكري للصحافة السورية، أو لأصحاب الرأي من السوريين، فبعضهم تربى في مؤسسةٍ إعلامية شريكة بدماء الأبرياء في المنطقة، والبعض الآخر يظن أن عمله في دكاكين الطائفية المسماة «صحافة» في لبنان يقدمه كشخصٍ يتمتع بمساحةٍ من الحرية، هؤلاء من مصلحتهم أن تبقى صورة الكاتب السوري هي تلك الصورة النمطية لمن لا يتحدث إلا بإيعازٍ ولا ينتقد إلا بحدود المسموح، لأن تهميش السوريين سيعني حكماً استمرارية سحب القارئ السوري نحو صحفهم، بل إن الأمر يأخذ أبعاداً جديدة في الكذب، فكيف ذلك؟
مع دخول الوضع في سورية مرحلةِ التعقيد، اعتادت بعض الصحف -وهنا حُكماً لا نتحدث عن تلك المتمرسة علناً في خندق الحرب على سورية- من خلال تعاطيها لحدثٍ ما في سورية أن تنسب كلامها لمن تسميهم «مقرَّبين من دوائر صنع القرار في سورية». تبدو التسمية غريبة جداً تحديداً أن كثراً ممن ابتلانا اللـه بهم بهذه الأزمة كمحللين يزهون بها عندما يُلقيها عليهم أحد الإعلاميين، من باب (صيت غنى ولا صيت فقر). لكن الأمر الأكثر غرابة هو أن بعض التصريحات المنقولة عمن يسمونهم «مقربين من دوائر صنع القرار»، تتناقض مع ما يقوله في العلن أصحاب القرار ذات أنفسهم؛ على سبيل المثال قال الرئيس الأسد في خطابه الأخير انسوا موضوع الخلاف بين الروس والسوريين أو الإيرانيين فالأمور أكثر من جيدة، بعدها بيوم خرجت إحدى الصحف لتقول كلاماً منسوباً لمن سمته «مقرباً من دوائر صنع القرار» بأن هناك خلافاً وزادها بأن الشعب السوري بمعظمه مستاء! إما أن حضرة «المقرب من دوائر صنع القرار» لم يتابع خطاب الأسد وإما أنه لم يسمع حتى الآن بالاجتماع الذي عُقد في طهران بين وزراء الدفاع في الدول الثلاث، فهل إن هذا الاجتماع أُعطي حقاً أكبر من حجمه وهو لا يلغي طموح الآخرين بوجود خلافاتٍ، أم إن الأمر بالفعل تجهيزٌ لمرحلةٍ قادمةٍ ستشهد تحولاتٍ كبرى؟
من الصعبِ بمكانٍ تحديد النتائج التي تمخض عنها الاجتماع، لكن ما يمكننا قوله إن عدم نشر أي أمورٍ متعلقةٍ بنتائج الاجتماع تقودنا فعلاً إلى الحديث عن أشياء مهمة جرى الاتفاق عليها، بل إن ذهبنا بعيداً لقُلنا أن أي قرار سيُتخذ سيكون التركي محوره، فإذا افترضنا أن قرار فتح معركتي حلب وإدلب بعد السيطرة على مطار الطبقة قد اتُخذ، فماذا ستكون ردة الفعل التركية؟ وإذا افترضنا أن نتائج الاجتماع تميل لتثبيت النزوع نحو المزيد من التهدئة، وتثبيت الهُدَن بضماناتٍ دوليةٍ، فهل سيقوم التركي بالتنفيذ؟
في الأسبوع الماضي، قلنا إن اعتراف البرلمان الألماني بالمجازر الأرمنية، لا يعدو كونه ورقةً ضغط على «الأزعر» لمنعه من التراجع في سورية. هذا الأمر ربما لم يثبته فقط الأداء العملي لأردوغان في دعم الإرهاب وتصاعد المعلومات عن عبورٍ شبه يومي للإرهابيين إلى سورية، ولا حتى حديث الرئيس الأسد عن «أردوغان» ووصفه بـ«الأزعر»، لكن ما يثبته هو الأداء الأوروبي بشكلٍ عام الذي بات يريد بأي شكلٍ من الأشكال البحث عن استمرار الحرب في سورية، فكيف ذلك؟
بدأت ميليشيا قوات سورية الديمقراطية تتقدم بريف «منبج» بعد استعصاء الرقة عليها. الغريب لم يكن الحديث عن وجود مقاتلين أميركيين أو بريطانيين يساعدون هذه الميليشيا، بل الغريب هو ما تم إعلانه بالأمس بأن قواتٍ فرنسية شرعت ببناء قاعدة لها داخل «عين العرب»، بذريعة المساعدة بمحاربة «داعش»، ليس هكذا فحسب بل إن الفرنسيين أنفسهم هم من رفعوا لواء الدفاع عن «آل سعود» وتصدوا لعملية رفع تحالف الدم في اليمن عن اللائحة السوداء، أي وحسب المنطق الفرنسي فإن استمرار الحرب في سورية واليمن لم يعد ضرورةً ملحةً فحسب بل إن قتل الأطفال والأبرياء في اليمن مسوغ ما دام القاتل هو من يمول برامج كثيرة في الأمم المتحدة، ثم إذا كان «بان كي مون» اعترف أنه تعرض لضغوطٍ، فمن يضمن أنه لم يتعرض لضغوطٍ في ملفاتٍ ثانية؟ ولنكن دقيقين أكثر:
غالباً ما يُحكى عن مجازر يرتكبها «داعش» بحق المدنيين في المناطق التي تنسحب منها كما حدث في «ريف منبج» منذ أيام، من يضمن لنا فعلياً أن «داعش» هي من قامت بتلك الجرائم، لماذا لا نقول إن الأمر عملية تطهيرٍ عرقي لها ما لها في قادمات الأيام، ولا ندري ربما يخرج علينا بعد أشهر «بان كي مون» ليقول إنهم تعرضوا لضغوطٍ لمنع الاعتراف بمجازر هذه الميليشيا الفاشية المحمية من الجميع؟ هذه الاستماتة الأوروبية ولضمان بقاء «آل سعود» و«العدالة والتنمية» منغمسين في الحرب على سورية تؤكد لنا أن ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع الثلاثي في طهران ليس عابراً، وليس تثبيت هُدَن، وليس حتى تثبيت اتفاقياتٍ أو تفاهمات، فإذا كان الرئيس الأسد تحدث عن حلب كمقبرةٍ للمشروع الأردوغاني، ما يعني حُكماً أن تبديل موقفه من عدمه بات تحصيل حاصل لأن قرار وقف المشروع الإخواني بات نهائياً، تُرى ماذا عن المقابر التي تم تجهيزها للمشاريع الأخرى؟ لن يطول الأمر حتى نعرف…