حكواتي بن حكواتي يحكي لـ«الوطن»: «أبو شادي الحكواتي» تجده اليوم على صفحة في كتاب تعليم اللغة الإنكليزية في المدارس
| سوسن صيداوي
يُحكى عبر الأزمان أنه كان هناك رجل يدعى الحكواتي، وكان هذا الحكواتي ممتهناً سرد القصص سواء في المنازل أم المحال أو المقاهي وحتى في الطرقات، شخصيته القوية وحضوره اللافت بنبرة صوته الجادة ومخارج حروفه الواضحة، مع تعبيره المنطوي على مشاعر معبّرة لما يختلج نفسه من أحساسيس، وما يدور في باله من أفكار، كانت كلّها كجرعة سحرية تستحوذ على كل من هو في محيطه المكاني، لأنها كلّها مع حركاته الجسدية ومع نظراته كانت تأسرهم وتقيّدهم بحيث يصعب عليهم الانصراف بل على العكس يكون من اللذة والتشويق متابعة أحداث قصصه ولو طال سردها لأشهر تجمع سنين.
هذا الحكواتي أو الرواي أو القصّاص أو القاص، وقفت بوجه مهنته التكنولوجيا وتحدّته، وما كان منها إلا أنها انتصرت عليه، بداية بالمذياع ثم التلفزيون، ومرورا بالمسرح والسينما، وانتهاء اليوم بالانترنت، صحيح أن المقاهي تملأ الأماكن وهي متنوعة بعروضها المشجعة لروادها، إلا أنها رغم مساحتها فلقد ضاقت على الحكواتي الذي أصبح «دقة قديمة »، وبطبيعة الحال أصبح الصمت من خيّم كاتما على أنفاس الكلمات، وبالتالي أصبحت قلة قليلة تتبادل الهرج والمرج في أثناء لعب ورق الشدة والطاولة وغيرها، بل اكتفت بالانترنت والتصفح والتواصل عبر مواقعها، وهذا الأمر الأخير لا يعنينا في الوقت الحالي، بل ما نحن معنيون به هو «الحكواتي» ذات نفسه الذي أصبح مغيبا بشكل تام عن المقاهي، وخصوصا في هذه الفترة الزمنية التي يحضرها شهر رمضان الذي جرت العادة فيه أن يكون «الحكواتي» طقسا من أجمل طقوسه التي تجمع الأصدقاء والأقارب في المقاهي للاستمتاع بما يبثّه من نفحة القيم والفضائل التي تميز أبطال حكاياته وقصصه ورواياته، اليوم نحن أمام حكواتي وحيد وهو ابن حكواتي اشتهر في سورية وفي لقائه بصحيفة «الوطن» قصّ لنا ما آلت إليه مهنتة «الحكواتي»، شادي رشيد الحلاق ابن حكواتي الشام يقول «رشيد حلاق سمّى نفسه» حكواتي الشام» نسبة إلى الشام الكبرى والتي هي فلسطين ولبنان والأردن وسورية، وكان توفي آخر حكواتي عام 1970، وفي عام 1990، أعاد والدي مهنة الحكواتي إلى دمشق وكان دائماً يروي حكاياته في قهوة النوفرة، بعدها أصبح يشارك في مهرجانات عربية منها مهرجان جرجش ومهرجان مسرح المدينة، وكان «الحكواتي» بالنسبة لأبي مهنة بحد ذاتها، وعلى الرغم من أنه كان يملك محلا تجاريا، إلا أنه ترك التجارة وعمله والتزم بعمل «الحكواتي»، وكان يقول للصحفيين إنه من شدة حبه لهذه المهنة وقبل أن يبدأ برواية الحكاية، كان يسمع دقة قلبه بأذنه اليمنى».
قصص تروى لسنين
اشتهرت دمشق بمقهى النوفرة وبالحكواتي «أبو شادي» الذي كان يقصّ على رواد المقهى عدة قصص وروايات وحكايات منها الظاهر بيبرس، ألف ليلة وليلة، وعنترة ابن شداد وغيرها الكثير، والمشوّق أن رواية هذه القصص كانت تطول لسنة وأكثر ويأتي رواد المقهى كل يوم كي يسمعوها، وحتى الأجانب والسياح كانوا يدخلون مقهى النوفرة كي يسمعوا حكايات أبي شادي كما أوضح ابنه شادي «في بداية مشوار أبي، جمعت الكثير من كتب الحكواتية الموجودة في المقاهي في العديد من المحافظات، وكنت أشتري هذه الكتب وكان وقتها ثمنها زهيدا، وتمكّنت من جمع أكثر من ثمانية آلاف كتاب حكواتي، ولكن للأسف وبسبب من لا يقدّر قيمتها تمّ حرقها في ظل الأزمة، وبالنسبة للكتب التي جمعتها كان منها مخطوطات مكتوبة باليد، ومثلا قصة الملك الظاهر بيبرس، كانت مؤلفة من مئة وثمانين كتابا، وكل جزء بمئة صفحة، وكانت الحكاية حتى تنتهي تستغرق روايتها من أبي نحو سنة ونصف السنة، وأيضاً قصة عنترة مؤلفة من ثمانية مجلدات كل مجلد أربعة أقسام وكانت تستغرق روايتها في المقهى نحو سنة ونصف السنة، وما يُميّز الحكايات التي كان يرويها والدي بأن بعضها كان باللغة العامية، وبعضها كان بالفصحى، وبعضها الآخر كان مصوغاً باللهجات المحلية الخاصة بكل منطقة وبكل محافظة، ومن القصص بلهجاتها التي تختلف باختلاف الأماكن وأيضاً باختلاف الزمن، والجميل أيضاً بأنه في الفترة التي كان أبي «أبو شادي الحكواتي» يحكي القصص في مقهى «النوفرة» أصبح هناك تواجد للنساء ثم أصبح هذا أمراً طبيعياً، وحتى السياح الأجانب كانوا يأتون إلى القهوة وكان يُخصص لهم مقطعاً صغيراً له بداية ونهاية بعكس القصص الأخرى التي كانت تطول لسنين».
حكواتي ع الموضة
«الحكواتي» شخصية وحيدة إلا أن كثيرين ممن قاموا بتجسيدها، وما يُميّز حكواتي القديم لباسه وعدة عناصر أخرى توثّق شخصيته بالتراث الشعبي، ولكن اليوم الحال مختلف، فحكواتي هذه الأيام فارغ الشكل والمضمون ورغم أن الكثير ممن يحاولون أن يكونوا «حكواتية هذا الزمان» ولكن وللأسف الشديد يظنون أن بارتدائهم للشروال سيكون هذا كافياً كي يكونوا «الحكواتي»، شادي الحلاق بالنسبة لأبي كان «الحكواتي» يمثّل التراث وبالتالي عليه حتى بلباسه أن يمثّل هذه الشخصية وذلك من خلال اللبس الدمشقي، وهذا اللبس القديم كان مكلفاً جداً، فمثلا كان يرتدي فوق ملابسه جاكيتاً يدعى «دامر»، وعندما أراد أن يحضر واحداً جديداً، قلت له ببساطة أنا سأحضر لك واحدا، لكنه شرح لي بأن الـ«الدامر» قماشه يصنع فقط في معرة النعمان، ولما سألته إن كان يُصنع بمكان آخر، جاء جوابه بالنفي، وحتى الطربوش كان طربوش قش، واليوم لا أحد يصنع طربوشاً من هذه النوعية لأنه غال جداً، وبالنسبة للعصاة التي كان يمسكها، والمسابح والساعة التي كانت تعلّق بالصدر… كلها غالية، وتحمل طابعاً تراثياً يعكس شخصية الحكواتي وأصالته، ترك والدي من ذكريات مهنته ثلاثة طقوم كاملة لملابس عربية دمشقية والتي هي ثروة… لكنها تحتاج من يقدرها».
الحكواتي جزء من التراث الشعبي
حظيت مهنة الحكواتي والتي عرفتها بلاد الشام على شعبية واسعة الأمر الذي جعلها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد، ولكن الحال اليوم تغير وبالرغم من أنه وللأسف الشديد تمّ تسجيل «الحكواتي» على قائمة الحماية المستعجلة لحماية الظل باللجنة الوطنية السورية، إلا أن «الحكواتي» يتخبط بين عدم الاهتمام والتقدير وقلة الأجور هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعاني عدم المرجعية، «شادي الحلاق» الأمر محبط جداً ويبعث في النفس حزناً عميقاً، فعلى الرغم من أنه تمّ تسجيل «الحكواتي» على قائمة الحماية المستعجلة لحماية الظل باللجنة الوطنية السورية وبمشروع في اليونيسكو من أجل حمايتهم من الاندثار، إلا أنه لا يوجد مرجعية أو جهة تهتم بالحكواتي، وحتى إنني في مرة كنت ذهبت كي أسجل أبي في نقابة الفنانين، فكان الجواب بأن على أبي الحصول على شهادة البكالوريا كي يتم تسجيله في النقابة».
في الختام… كلمة
على الرغم من الأهمية والتلويح بضرورة الاهتمام، إلا أن كل من هو معني بالاهتمام ذاته نجده في حقيقة الواقع مستسلماً خانعاً لا يقوم بشيء نافع يخدم الحالة، شادي حلاق «أتمنى أن أكمل مسيرة أبي وأن أكون أنا أيضاً حكواتياً، لأن أبي ركز واهتم جداً بي كي أكون حكواتياً، فكان يدربني على القراءة ويصحح لي النطق، وصحيح أنني قلت له بأنني لا أريد أن أكون حكواتياً إلا أنني من غير الشعور أجد نفسي حكواتياً، وفي مرة قال لي: لو أنك لا تحب هذه المهنة لما جمعت كل تلك الكتب والحكايات، وبالطبع حاولت أن أكون حكواتياً ففي عام 1991 جربت مرتين وبعدها رفضت الاستمرار ثم اتجهت في اتجاه آخر، والآن ما يعوق رغبتي قلة الاهتمام بهذه المهنة وشح مردودها، فأجرالكحواتي بسيط جداً، ولا يكفي للمواصلات، فكيف ستكون مهنة أعتاش منها أنا وعائلتي».