دروب الهوى!
| عصام داري
فرح اللقاء الأول لا يعادله فرح الدنيا، ولمسة يد المحبوبة للمرة الأولى، والمشوار السري في الشوارع الخلفية بعيداً عن «البصاصين» والحاسدين والوشاة، في تلك اللحظة يعزف القلب ألحاناً تتراقص عليها كل الحواس، ويشعر العاشق أنه في عالم مسحور مع أميرته الهاربة من قصور الحريم، وخيام شيوخ العشيرة، وسجون زعيم القبيلة.
تلك الدروب التي مشينا عليها مازالت على حالها، تماماً كما تركناها منذ سنوات كثيرة خلت، لكنها صارت أكثر بعداً عنا، اختفت بين غابات إسمنتية عملاقة بعد أن كانت تختبئ خلف سياج من أشجار الصفصاف والكينا والسرو والصنوبر، الشيء الأبرز الذي حصل خلال تلك السنوات، أننا كبرنا، بينما ضاقت دروب الهوى وضاعت في متاهات المدينة الكبيرة.
نحنُّ إلى أيام الصبا والبراءة والحب الأول، نستعيد تلك الذكريات التي تحكي قصتنا في مرحلة من التطور الذي شهدته مدينتنا الجميلة، وبلادنا الرائعة التي تختصر التاريخ الإنساني.
اليوم نعقد مقارنة بين ما كان وما صار، فتصيبنا الدهشة، وتصفعنا الحقيقة التي تقول لنا: إن الحاضر قد اغتال الماضي بكل وحشية، تاركاً بوابة المستقبل مفتوحة على المجهول والخوف والرعب الزاحف نحونا بقوة.
أصبحت غابة الإسمنت كبيرة وعملاقة، والتهمت الأحزمة الخضراء التي كانت تطوقنا من كل الجهات، وترسم لوحات ملونة ومزركشة في شوارعنا.
كنا في الطفولة نمارس هواية تعداد السيارات العابرة في الشوارع، نتقاسمها فيما بيننا، فالسيارات الذاهبة باتجاه اليمين لي، والتي تذهب في اتجاه اليسار لصديقي، اليوم اليمين واليسار صارا سياسة تغير خريطة الوطن، وصارت السيارات قبائل تتكاثر كل لحظة وتتنافس على تلويث الهواء وغزو الصدور لترسم طريقاً إضافياً للموت ما كان ملموساً في الماضي، ويقولون لك: «هذه ضريبة الحضارة» ويا لها من ضريبة قاتلة.
كثيرة هي الأمور والحكايات التي تجعل حنيننا إلى الماضي يكبر كل يوم، وتجعلنا نستعيد ذكريات الزمن الذي نسميه «الزمن الجميل»، ويلومنا أبناء هذا الجيل كلما قلنا إننا أبناء الزمن الجميل، ويسألوننا بما يشبه الاستنكار والعتب والغضب: وهل نحن أبناء الزمن القبيح؟
من غير الإنصاف وصف هذا الزمن بالقبح، مع أنه يحمل الكثير من عناصر القبح والبشاعة والتوحش، لكنه ليس قطعاً هو زمن الرومانسية ودروب الهوى وحكايات الحب الذي كان، ويبدو أنه هاجر منذ زمن، وقبل الهجرات الجماعية التي غزت أوروبا بحثاً عن أمن مفقود، وإرهاب أقل!.
الزمن الجميل ليس فقط تلك المشاعر والأحاسيس المرهفة والحب الرومانسي وغير ذلك، بل هو أيضاً زمن الفن الرائع في الطرب والألحان والأشعار زمن العمالقة، لا ننسى أم كلثوم وعبد الوهاب والعندليب وليلى مراد، وأحمد شوقي وبيرم التونسي وكامل ومأمون الشناوي، ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، والقائمة تطول، من دون أن ننسى أيضاً مبدعي سورية في كل الفنون والأدب والشعر، ونتوقف عند الشاعر العالمي الذي تخرج في بيت دمشقي عريق. وعتيق، هو شاعرنا نزار قباني.
افتقدنا الزمن الجميل، وتاهت دروب الهوى في الشوارع العريضة والحضارة الحديدية التي اغتالت روح الإنسان وشطبت الحب من القواميس.