التراث والتجديد
| د. علي القيّم
احتل موضوع «التراث والتجديد» في السنوات القليلة الماضية، مكانة جيدة في كتابات ومناقشات مجموعة من المفكرين العرب، أمثال: محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، ومحمد عمارة، وعبد الوهاب المسيري، وجورج طرابيشي، وزكي نجيب محمود ومحمد أركون وغيرهم، وكأنهم في كل ما كتبوه، يحاولون تجاوز الوضع العربي الراهن بكل سلبياته وتعقيداته، ويسعون إلى تأسيس زمن مغاير، ونهضة شاملة، وإعادة قراءة التراث العربي من جديد وفق رؤية جديدة، وتحليل معرفي من الداخل، لبناء عقل عربي جديد نواجه به حضارة الغرب السائدة منذ خمسة قرون.
المفكر العربي السوري جورج طرابيشي الراحل كان أكثر المفكرين العرب وعياً وإدراكاً لهذه المسألة، لأننا على مدى سنوات طويلة خلت تركنا مهمة التراث هذه للآخرين، وكان هذا خطاً فكرياً ومنهجاً وقع فيه كثيرون، فأهمل واستغل أسوأ استغلال مع العلم أن ولوج العصر لا يتم إلا على أرضية التراث، لأننا أمة ذات ثقافة وحضارة عريقة، ولذلك لا نستطيع أن نقف على أرضية الحداثة، ونحن عراة من كل شيء، ويعتقد «الطرابيشي» أن أسلافه من المثقفين والمفكرين في تعاملهم مع التراث، اشتركوا منفردين أو متضامنين في ارتكاب جريمة أو خطيئة كبرى في حق أنفسنا وحق ثقافتنا وحق تراثنا، فأثّرت سلبياً في قضية التقدم، في الوطن العربي، وذلك بإهمالنا للتراث، أي إهمالنا لأنفسنا، والتفافنا التام نحو الحداثة من دون أرضية ثقافية.
لقد ترتّب على ذلك الإهمال والتجاهل، نتائج غاية في الخطورة، ليس أقلّها، ذلك الاحتقان الثقافي والاستقطاب الفكري الذي تعانيه الثقافة العربية، فقد تقدم لشغل الفراغ أنصاف مثقفين غير مؤهلين، لإعادة قراءة التراث، اكتفوا بمجرد قراءة تكرارية مملّة، فكانت النتيجة تصاعد المد الأصولي في الثقافة العربية، واكتشف المثقفون العرب، أن البساط قد سحب من تحت أقدامهم، ومن فوق رؤوسهم، واكتشفوا معنى وضرورة وأهمية العودة إلى التراث لتوظيفه كاملاً في معركتنا المقبلة من أجل التقدم والحضارة.
لقد اكتشف «الطرابيشي» في كتابه «نقد نقد العقل العربي» أن ما كتبه سابقوه عن التراث فيه أخطاء منهجية ومعرفية مهولة، فأعاد قراءة التراث العربي من مصادره الأصلية، ولذلك عاد إلى «الكندي» و«الفارابي» و«ابن رشد» و«ابن سينا» وغاص في إبداعات علماء اللغة والبيان وفرق الكلام، وعرج على اللحظات التأسيسية في الحضارة العربية فوقف طويلاً مع مالك في «الموطأ» والشافعي في «الرسالة» كما عاد إلى التراث اليوناني وتراث الحضارة الغربية… وبذلك امتلك أدوات منهجية نقض مشاريع «الجابري» وغيره وبخاصة «نقد العقل العربي» فتبين له أن «الجابري» وقع فريسة سهلة للأيديولوجيات الإستشراقية، فتبنى أفكار المستشرقين، ورددّها من دون أن يختبرها ميزان العقل والبحث العلمي الدقيق، وصوّر لنا المستشرقون أننا لا نملك سوى التراث العربي الإسلامي وحده، وكأن ذلك التراث عاش في جزيرة منعزلة، بينما تؤكد الحقيقة التاريخية والمكتشفات الأثرية أن الإسلام لم يظهر فوق أرض جدباء، وأننا كلما توغلنا في طبقة من طبقات الحضارة وجدنا تحتها طبقات أعمق، وأن العرب كانوا يملكون تراثاً طويلاً وعريضاً وعميقاً في الجاهلية وقبل الإسلام، وأن الجاهلية لم تكن أبداً جاهلية حضارية بل كانت جاهلية أخلاقية.
«الطرابيشي» بحث عن التراث ليتسلّح به، ودخل عالم الحداثة وحجته في ذلك قوية ناصعة «نحن أمة تراثية، وقد نعرّف أنفسنا بهذا اللفظ وحده، وإذا لم نعرف كيف نتعامل مع هذه الأرضية العميقة التي نقف عليها، فسوف تشكلنا بدلاً من أن نعيد تشكيلها، ونحن لا خيار لنا إلا أن نقف على هذه الأرضية، تماماً كما أنه لا خيار لنا إلا في أن نكون مفتوحين على حضارة اليوم، أي الحضارة الحديثة، ولهذا أعتقد أن طرح سؤال التراث لا يقل أهمية عن طرح سؤال الحداثة».