قضايا وآراء

بين «السجالات الداخلية» و«المخططات الخارجية»..

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

في السجالِ الحاصل على المستوى المحلي منذ إعلان وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك يوم الخميس الماضي رفعَ أسعارِ المحروقات، لم يكن مستغرباً غيابَ تعليل منطقي من الحكومة، فالأمر اعتدنا عليهِ بما فيه خروج بعض «المتقولين» للدفاع عن أي قرار بتكريرِ العبارة المملة بأننا في حالةِ حرب، وكأن المواطن بحاجةٍ لمن يذكِّرُه بذلك. ولم نستغرب كذلك الأمر ردةَ الفعل الشعبية العارمة لرفضِ هذا القرار، فالأمر كان متوقعاً، تحديداً أن رفع أسعار المحروقات ينعكس بصورةٍ مباشرةٍ على كل ما يمت بصلةٍ ليومياتِ المواطن الذي يعاني أساساً على المستوى المعيشي، لأن مشكلة المواطن ليست ارتفاع الأسعار فحسب، بل غياب الرقابة على هذه الأسعار وسط هذا الجنون في الاحتكار والعبث بقوتِ المواطن من أصحاب رؤوس الأموال.
لكنَّ أكثر ما لفت النظر لدرجةِ «الشفقة» هي تلك المراجل الفيسبوكية التي صدرت فجأة من بعضِ أعضاء مجلس الشعب أو الشخصيات التي تظن أنها نافذةٌ على المستوى الشعبي، التي لم تكتفِ برفض القرار (لأننا معهم برفض قرار رفع الأسعار)، لكنها ذهبت أبعدَ من ذلك لاعتبار القرار ليس دستورياً. بعضهم تحدث عن «قانون رفع الأسعار»، علماً أن ما صدر هو «قرار» وهو من صلاحيات الوزير، أما القوانين فهي من صلاحيات مجلس الشعب يا حضرة «ممثلي الشعب». قد نجد أنفسَنا أمام معضلة حقيقية عندما نكتشف أن ممثلي الشعب بحاجةٍ ربما لدورات تثقيفية بالآليات التشريعية والقانون الإداري السوري، بما فيها الفرق بين (الدستور والقانون). إن عدم المعرفة ليس عيباً، فجميعنا بحاجةٍ إلى مزيد من الاطلاع كي نحقِّق الحد الأدنى من المعرفة، لكن المشكلة تكمن عندما نسارع بإطلاق الأحكام ونحن في مكانٍ لدينا فيه تأثير في الرأي العام. إن اعتبار الحكومة مستقيلة وفق المواد 125 ـ 128 من الدستور، يعني أن رئيس الحكومة ليس بحاجةٍ لتقديمِ استقالةٍ خطيةٍ لرئيس الجمهورية، ولا رئيس الجمهورية بحاجةٍ لإصدار مرسوم بإقالة الحكومة، لكن هذا لا يعني أن الوزير لا يستطيع إصدار قرار من ضمن صلاحيات العمل في وزارته، ما لم يكن هناك نص دستوري صريح يُلغي هذه الصلاحية، فالدستور هو القيمة التشريعية الأعلى في البلاد، ولا يمكن لقانون أو اجتهاد أن يتعدى على نص دستوري. إن اللعب على وتر «عدم دستورية قرار الوزير» بعد ساعاتٍ قليلةٍ من صدوره لا يعدو كونه مراهقة سياسية تجعلنا نتساءل: إذا كانت البداية هكذا… فكيف سنكمِّل؟
أما الوعود التي أطلقت عن مواجهة القرار في جلسة مجلس الشعب اليوم، فهي لا تعدو كونها تسجيل مواقف لا أكثر، فمجلس الشعب أقصى ما يستطيعه هو استدعاء الوزير لشرح الأسباب الموجبة لهذا القرار وحكماً لدى الوزير ما يبرر، وعليه فإن المطلوب في حالات كهذه تفعيل عمل «مجلس الدولة» الذي بالكاد يسمع به المواطن السوري ليشمل إمكانية التقاضي الإداري بكل ما يتعلق بالقرارات المجحفة الصادرة عن إدارات الدولة بما فيها «كبار الموظفين» ومن بينهم الوزراء. أما الحديث عن «المحكمة الدستورية» فالإحالة عليها بحاجة لتوقيع خُمس أعضاء مجلس الشعب للنظر بدستورية القرار، وللموضوعية أكثر نقول إن الكارثة أكبر إذا كان هناك خُمس أعضاء مجلس الشعب يظنون أن قرار الوزير ليس دستورياً!
في الواقع، يبدو أن البعض تأثر بالدراما الرمضانية القميئة، تحديداً تلك «القندهارية» منها، والمراجل والبطولات الوهمية ليرسم لنفسه مكانةَ «العكيد». من ثم يبدو حال المواطن السوري وكأنه يتابع مسلسلاً مستمراً لا ينتهي، فهو بالكاد أنهى حلقةً من دراما الحرب الداخلية، لتبدأ حلقةً جديدة من دراما الحرب الخارجية، فما الجديد؟
خرجت المؤسسات الإعلامية بوثيقة، قالت: إن خمسين دبلوماسياً أميركياً أرسلها للبيت الأبيض يطلبون فيها توجيه ضرباتٍ جويةٍ لمراكز قوة «النظام السوري» على حد تعبيرهم. قد يبدو هذا الكلام هو نوعٌ من تعميق الخلاف بين الروس والأميركيين، تحديداً أن الكرملين أدان هذه المطالب. يبدو هذا الأمر أيضاً استمرارية لكلام كيري عن نفاد صبر الولايات المتحدة حيال ما يجري في سورية، لكن المفارقة الأولى التي تركتها تصريحات كيري تطرح سؤالاً جوهرياً: ماذا بعدَ نفاد صبر الولايات المتحدة، وبمعنى أدق:
مع كل هذا الإجرام وتدميرٍ الأوطان وحماية الإرهاب بما فيهم فرع تنظيم القاعدة في سورية «جبهة النصرة» وصبر الولايات المتحدة لم ينفد! تُرى ماذا لو نفد؟ أما المفارقة الثانية، فإنه رحب بوثيقة دبلوماسييه ووعد بدراستها فور عودته للولايات المتحدة، لكن كلام المتحدثة باسم البيت الأبيض «جنيفر فريدمان» فيما يبدو نسفَ كلَّ طموحاته، فهي أكدت أن الرئيس أوباما لا يرى أي إمكانية لحلٍ عسكري للأزمة السورية، لكن هناك عبارة وردت بكلامِ «فريدمان» لا بد من الانتباه إليها، عندما قالت إننا نرحب بكل المداولات والآراء المتعلقة «بتحقيق أهدافنا في سورية»، فما هي هذه الأهداف؟ ثم هل هي حقاً أهدافٌ مباشرة للولايات المتحدة أم غير مباشرة متعلقة بالحلفاء والأتباع؟
يدرك كيري قبل غيره أن اللعب الآن هو في الوقتِ الضائع، بمعنى آخر: إن زيارة «محمد بن سلمان» للولايات المتحدة وما سبقها من انتكاسةٍ لـ«آل سعود» في اليمن تمثلت بإعلان «أحفاد شخبوط» انتهاء حربهم في اليمن لأنهم كما يبدو لم يعودوا قادرين على إخفاء خسائرهم، كان لا بد أن يقابلها بتصريحاتٍ رنانةٍ ترفع معنويات الحلفاء، تحديداً أن مغامرةً كتلك في سورية لا يمكن لأحد التكهن بعواقبها، وهم أنفسهم يعترفون أن «النظام» الذي يحاربونه بات أقوى مما كان عليه في العام الماضي، حتى التفكير بالعودة لصيف 2013 عندما أثمرت التهديدات الأميركية – حسب زعمهم – تسليم سورية سلاحها الكيميائي أمرٌ لا يمكن تطبيقه الآن، لأن السوريين لم يسلموا السلاح انطلاقاً من تفادي الضربات، من ثم هم جاهزون الآن لابتزازٍ آخر في نهاية فترة أوباما. يدرك البيت الأبيض هذه المقاربة تماماً، بعكس الخارجية والبنتاغون، لذلك فإن السعي الأميركي لإطالة الحرب وترحيلها للإدارة القادمة بات بحكم القائم، مع التركيز على ثابتين: الأول استمرار الحرب من دون التدخل العسكري المباشر ما دام وقود الحرب جاهزاً، والثاني أن هذه الإستراتيجية يجب ألا تصيب الحلفاء بأي تخوفاتٍ، وبالتالي استمرار صناعة الوهم عبر التصريحات الرنانة لتأمين الأهداف التي يتحدثون عنها، والتي يمكننا اختصارها بحدثين:
قبل فترة اعترف رئيس الموساد السابق خلال دفاعه عن قيام «إسرائيل» بعلاج عناصر «جبهة النصرة» بأن هذا العمل الإنساني ينطلق من مساعدة من سماهم «المسلمين الحقيقيين». بل ذهب أبعد من ذلك بتأكيده أن الكيان لا يخاف من انقلاب «النصرة» عليه لأن «تنظيم القاعدة» لم يقم يوماً بعملٍ يستهدف «إسرائيل»، حتى مؤتمر «هرتزيليا» الذي يبحث في الأخطار التي تحيط بالكيان الصهيوني، لم يكتفِ هذه المرة بدعوة وفودٍ من مصر وقطر والأردن أو شخصياتٍ معارضةٍ سوريةٍ مستقلة، لكنه قام بدعوة ممثلٍ لما يُسمى «الجيش الحر». هذا الأمر يقودنا لفرضية أن أول الأهداف الأميركية هو كل ما يرضي «إسرائيل»، فهل ستتنازل «إسرائيل» عن هذه الورقة بسهولةٍ؟ بل هل يمكننا أن نصدق أن القوات الفرنسية الموجودة الآن في «عين العرب» ليس فيها عناصر «إسرائيلية»؟
إن الحديث عن وجود عناصر «إسرائيلية» من ضمن القوات الفرنسية في «عين العرب» يقودنا للهدف الثاني للولايات المتحدة، وهو ما اختصره رئيس حزب الشعوب التركي «صلاح الدين ديمرطاش» بالقول أمام نوابٍ أوروبيين: «إن السلام في سورية مرتبطٌ بالسلام بتركيا». تبدو هذه التصريحات وهذا الربط العجائبي مثيرة للاستغراب تحديداً في وقتٍ سال الكثير من حبر الكتَّاب وهم يتحدثون عن «تكويعةٍ» أردوغانيةٍ لن يروها إلا في مناماتهم، وعليه فإن الجميع بات اليوم يربط طموحاته بتحقيق السلام في سورية، لأن الجميع بات يرى في الأمر فرصةً تاريخية لن تتكرر، فما نهاية هذا الكَبّاش الدولي؟
نهايته ببساطةٍ بأيدي من يسيطر على الأرض… وعلى كيري إن نفد صبره أن يتذكر أن هناك أسلوباً في السياسة يجعلك تدفع الخصم لنفاد صبره، فمن يهدِد بنفاد صبره هو أمام احتمالين: إما أن يرتكب الحماقة وإما يكتشف كم كان أحمق.. وفي الحالتين فإنك تنتصر عليه… لكن ببطء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن