ثقافة وفن

من المسؤول عن حرائق دمشق وسجلت ضد مجهول؟ … دمشق الحرائق عبر التاريخ ولكن العبق يبقى..

| شمس الدين العجلاني

حريق سوق العصرونية الأخير فتح الباب على مصراعيه للحديث عن حرائق الشام التي سببها الطبيعة والإنسان.. فتح الباب على مصراعيه للحديث عن حرائق دمشق القديمة وأوابدها وأسواقها وخاناتها.. لو تصفحنا يوميات حرائق دمشق منذ مئات السنين إلى الآن وما تكبدته الحضارة الإنسانية من خسائر وكوارث نتيجة لذلك لأصابنا الهول والعجز بما حلّ بحضارتنا.
دمشق تعرضت على مر الأيام والسنين لعشرات العشرات من الحرائق التي أتت على أهم معالمها الحضارية والتراثية. ، منها على سبيل المثال بفعل الحروب أو الغزو كما هو الحال بغزو تيمورلنك لدمشق، والمحتل الفرنسي وحريق منطقة سيدي عامود عام 1925 م، والحرائق التي اندلعت عام 1945م عندما قصف الفرنسيون دمشق، ومنها بفعل إهمال الإنسان وعدم وعيه كحريق الجامع الأموي عام 1893 م، وحريق سينما جناق قلعة عام 1916م، وحريق السنجقدار يوم 20/6/1928.
أو الحريق الهائل الذي طال سوق اللبادين والذي قال عنه ابن كثير في كتابه المعروف (البداية والنهاية) في حوادث سنة 681هـ في دمشق ما يلي: (في يوم الإثنين الحادي عشر من رمضان وقع حريق باللبادين (أي سوق اللبادين) عظيم، وحضر نائب السلطنة إذ ذاك الأمير حسام الدين لاجين السلحدار وجماعة كثيرة من الأمراء، وكانت ليلة هائلة جداً وقى اللـه شرها، واستدرك بعد ذلك أمرها القاضي نجم الدين بن النحاس ناظر الجامع (أي تولى التحقيق فيها والتعويضات ونحو ذلك) فأصلح الأمر وسدّ، وأعاد البناء أحسن مما كان، وللـه الحمد والمنة..) على حين يذكر كتاب «العبر في خبر من غبر» أن هذا الحريق حصل ليلة السادس والعشرين من شوال).
ولا ننسى غضب الطبيعة الذي أصاب الشام عبر العصور لعل أشدها فتكاً وأكثرها رعباً وقسوة الزلازل. الذي وقف الإنسان منذ القدم عاجزاً عن مقاومتها.

حرائق اليوم
في أيامنا هذه تستمر سلسلة الحرائق التي تطول دمشق وتراثها وأوابدها الأثرية وبطل هذه الحرائق على الأغلب هو (الماس الكهربائي)!؟
عشرات العشرات من الحرائق التي طالت أوابدنا التاريخية المهمة وأحياء دمشق القديمة العريقة من كلية الحقوق بدمشق في الرابع عشر من أيلول عام 2004 (قال وزير الإدارة المحلية آنذاك لجريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 15/9/2004: «الحريق شب أثناء تنفيذ عملية ترميم في سقف الطابق العلوي من كلية الحقوق جراء ماس كهربائي»)، وحريق في حي سوق ساروجه عام 2006، حريق في محلة (السويقة) الذي حصل يوم 3/6/2006 في أحد مستودعات البضائع، وكان هذا الحريق هو الثاني في أقل من شهر والثالث في أقل من ثمانية أشهر في المنطقة نفسها. وحريق آخر هائل اندلع بأحياء دمشق القديمة أتى على أجزاء كبيرة من (المدرسة الفاطمية) الأثرية وامتد ليطول منازل عربية احترقت ودمرت بشكل جزئي وذلك قرابة (7) مساء من أحد أيام الجمعة من عام 2008م.
فهل نحمل مسؤولية ما يطول دمشق من كوارث وحرائق (للماس الكهربائي) وكفى اللـه المؤمنين شر القتال… أم نبحث عن السبب الرئيسي لهذه الحرائق التي تدمي العين والقلب؟
ولنا مثالان عن أخطر حريقين حديثين طالا حضارتنا وتراثنا وهما حريق معهد الحقوق (وزارة السياحة) عام 2009م وحريق سوق العصرونية الذي حصل فجر يوم السبت الثالث والعشرين من نيسان 2016.

حريق وزارة السياحة
فوجئ الدمشقيون يوم الجمعة في الثالث من شهر تموز عام 2009 م، بحريق ضخم اندلع في مبنى وزارة السياحة الكائن في منطقة فيكتوريا في وسط دمشق التجاري، التهم الطابق الثاني من المبنى بأكمله. وأتى على مكتب الوزير ومكاتب معاونيه وقاعة الاجتماعات. وزير السياحة حينذاك أوضح سبب الحريق: (الحريق ناجم عن أعمال الترميم وكان هناك عناصر شرطة سياحية، حيث أن المبنى مجهز بالحراسة الدائمة، وحسب المعطيات الأولية نجم الحريق عن شرارة كهربائية نتيجة أعمال الصيانة للقسم المعدني في السقف وامتدت إلى القسم الخشبي سريع الاشتعال). والمهم آنذاك بالنسبة للمعنيين بالأمر، عدم وجود إصابة بشرية، من دون الغوص في الأسباب الحقيقية لهذا الحريق، وهل هو نتيجة الإهمال في عامل الأمن والسلامة المهنية!؟ أو أنه قدرنا!؟ وكفى اللـه المؤمنين شر القتال، فالأمر ليس بسيطاً وعبارة عن (كرسيين ثلاثة وكم كمبيوتر)، فكل الحرائق التي لحقت بدمشق خلال عشرات السنين الماضية لم نسمع أنه تم التحقيق فيها وأدين فلان أو فلان بها نتيجة الإهمال والفوضى وعدم مراعاة طرق الحماية من الحرائق… وكان المسؤول الوحيد هو الماس الكهربائي وما شابه ذلك، فهل ندين مؤسسة الكهرباء لأنها تزودنا بها!؟.

أهمية مبنى وزارة السياحة
بعد قرابة شهر من وقوع حريق وزارة السياحة بدا المبنى وقد فقد سقفه القرميدي المميز بالكامل، وظهرت آثار الحريق على القسم الحجري وتهشم زجاج النوافذ. وأثار هذا الحريق المهتمين بتراث مدينة دمشق وذاكرتها لأن للمبنى قيمة تاريخية وأثرية مهمة. فالبناء عمره أكثر من قرن، وقد بني عام 1911، وكان آخر ما شيده المحتل العثماني في دمشق، وكان ملحقاً بالتكية السليمانية لتنظيم شؤون طلابها ومعلميها، وقد اتخذ هذا المبنى مقراً لمعهد الحقوق الذي افتتح في الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1919 في العهد الفيصلي (عهد حكم فيصل بن الحسين لسورية إثر خروج العثمانيين بين عام 1918-1920 وقبيل دخول الفرنسيين) وهذا المبنى مع المعهد الطبي كانا نواة الجامعة السورية في مطلع القرن العشرين. مرت أسماء رجالات سورية الكبار على هذا المعهد، فقد ترأسه يوماً عبد القادر المؤيد العظم، وخطب فيه، عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري، وعيسى اسكندر المعلوف وقد أرسل الملك فيصل مندوباً عنه لحضور الدرس الأول في المعهد. ولم يكن معهد الحقوق محصوراً بالسوريين فقط، فقد تخرج في دفعته الأولى عدد من الشخصيات السورية المعروفة منهم: (سعيد الغزي- عبد الكريم الحسامي- مصطفى جميل الخضر- وجيه إسطواني- وثلاثة فلسطينيين هم: (حسن الخماش- عبد الرحمن النحوي- فخر الدين الحسيني) ولبناني واحد هو (زخريا أسعد زخريا) وقد استقبل المعهد أول طالبة هي (ملك كبارة) الدمشقية التي انتسبت إليه عام 1929. وفي أثناء وجود معهد الحقوق في هذا المبنى، اتخذ قسم منه لإعطاء دروس التشريح، لطلاب المعهد الطبي. وقد شغلت وزارة التربية هذا المبنى لسنوات، قبل أن يصبح مقراً لوزارة السياحة!
نحن هنا لا نريد التهويل لهذا الحريق وإعادة تسليط الضوء علية عبثاً، ولن نطالب بوضع الكهرباء في قفص الاتهام، ومن ثم إدانتها والمطالبة بحكم الإعدام بحقها؟ إنما كما يقولون نريد الحديث من الآخر: نريد خروج وزارة السياحة من هذا المبنى الأثري ذي الطابع الأوروبي، وتوظيفه كمعلم تراثي تاريخي، لأنه يضم بين ثناياه تاريخاً مهماً لسورية ولاسيما أن هذا البناء على ما أعتقد هو النموذج الوحيد الباقي في مدينة دمشق لمنشآت التعليم في القرن التاسع عشر.
كل حريق وأنتم بخير.. حريق وزارة السياحة، ليس الحريق الوحيد أو الأول الذي طال مؤسساتنا ومعاملنا الحكومية والخاصة، والغابات الخضراء ومدينة دمشق القديمة.. هذا الحريق سبقه العديد من الحرائق التي طالت مؤسساتنا… ولا أبالغ بالقول إن حريق وزاره السياحة قد أدمى قلوب الكثير من السوريين؟ وزارة السياحة صرح أثري مهم، كل حجر فيه يروي حكاية، وكل زاوية فيه تروي قصة.. كلما مررنا من أمام الوزارة نتأمل هذا البناء وتأخذنا الذاكرة إلى صفحات التاريخ فنرى فارس الخوري وجميل مردم بك وفخري البارودي.. وطلاب وأساتذة يقومون بالمظاهرات والاعتصامات ضد المستعمر.. نفتح ذاكرة مبنى وزاره السياحة المحترق فنقرأ تاريخ رجالات تطول قاماتهم الآفاق، وسيرة شعب مكافح يحب الحرية والاستقلال..

وبعد
ترى هل عجزت السلطات المختصة عن الحد من هذه الحرائق التي تلم بنا؟ والسؤال الثاني الذي يخطر في ذهني لماذا يتم الحريق في اغلب الأحيان يوم الجمعة؟ ولماذا الماس الكهربائي هو المتهم الأهم في هذه الحرائق؟ صحيح أن دمشق على مر التاريخ أصابها العديد من الحرائق التي آتت على أهم معالمها وكنوزها، ولكن لم يكن شبح الماس الكهربائي والعطلة الرسمية في ذاك الوقت في ساحة الجريمة، وإن كانت هنالك أسباب مشابهة فعذرهم أنه لم يكن في ذاك الزمن وسائل الوقاية الموجودة الآن؟ ففي حرائقنا الحديثة اليوم مجرمان لم تستطع يد العدالة أن تطولهما رغم كل وسائل التطور والتكنولوجيا، وهما كما ذكرنا الماس الكهربائي ويوم العطلة الأسبوعية؟ على الرغم من الخسارة الكبيرة لحريق مبنى وزارة السياحة والذي أدى إلى تدمير معلم تراثي من معالم دمشق إلا أن وسائل الإعلام المختلفة لم تشر إلى أهمية هذا المبنى سوى قولها إنه مبنى تراثي يعود إلى الحقبة العثمانية، وإنني أرى أن هذا المبنى المحترق يشكل جزءاً من ذاكرة بلدي وهو على جانب كبير من الأهمية، كان من الأولى أن يكون متحفا أو مكتبة تراثية أو أي شيء آخر بعيداً عن عبث الطفيليين والموظفين اللامبالين.
حاولنا ها هنا قراءة تاريخ مبنى وزارة السياحة المحترق؟ ونصرخ بأعلى صوتنا أيها السوريون: احذروا الماس الكهربائي قبل أن نفقد مؤسساتنا وتراثنا؟
يا أيها القيمون على تراثنا وتاريخنا وآثارنا حان الوقت لنفكر بالحفاظ على هذه الأوابد وأن نحاول توظيفها بالشكل الأمثل لا أن نجعلها مؤسسات ومكاتب بين أيدي من لا يحسن استعمالها والحفاظ عليها.
وانتهى حريق مبنى وزارة السياحة وتنفسنا الصعداء، وجاءنا حريق سوق العصرونية وهو الأسوأ في تاريخ حرائق أسواق الشام وكشف لنا كم نحن مهملون كمؤسسات وأفراد في معرفة تاريخنا وحضارتنا وكم نحن مهملون في المحافظة على أوابدنا وتراثنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن