ريجيس دوبريه: أنا فرنسي أشعر بالاهانة عندما أرى فرانسوا هولاند
| مها محفوض محمد
هناك شبه كبير بينه وبين الكولونيل شابير (البطل الرئيسي في إحدى روايات بلزاك) والتشبيه يوافقه لدرجة الالتباس بشخصية شابير الذي أعتقد أنه مات أثناء القتال في معركة ايلو عام 1807 ليفاجئ الجميع بعودته إلى قومه سالما بعد زمن وفي حقبة عرفت بـ«عصر إعادة الملكية» لكنه اكتشف أنه قادم من زمن آخر يوم كانت البطولة سيدة الأخلاق فوجد أنه لم يعد له مكان في زمن المصالح الشخصية والمجتمع النفعي، فهل هو زمن الذكرى والرجوع لريجيس دوبريه ذاك الرفيق القديم للمناضل تشي غيفارا؟
بهذه العبارات قدمت صحيفة لوموند الفرنسية بورتريه للفيلسوف ريجيس دوبريه بمناسبة صدور آخر كتاب له «دفتر طريق» في شهر أيار الماضي.
دوبريه الذي يعد اليوم أحد آخر الأعلام الكبار في الثقافة الفرنسية هو من وسط فكري ينسب إلى «الديغوليه اليسارية». ولد عام 1940 لأب محام وأم كانت إحدى المقاومات ضد الاحتلال النازي درس الفلسفة في المدرسة العليا الفرنسية تخرج عام 1965 لكنه لم يعمل في مجال الفلسفة بل توجه مباشرة إلى كوبا لينضم إلى المناضل الأممي تشي غيفارا ويدخل السجن في بوليفيا بسبب دعمه للثوار الشيوعيين ولم يخرج منه إلا بعد حملة دولية داعمة له قادها الفيلسوف جان بول سارتر فخرج بعد أربع سنوات ليتوجه من هناك إلى تشيلي ويلتقي الزعيم سلفادور الليندي والشاعر بابلو نيرودا.
في العام 1973 عاد دوبريه إلى فرنسا ليتقلد مناصب رسمية ومهام متعددة ثم مستشارا للرئيس فرانسوا ميتيران ومع بداية التسعينيات شغل دور المثقف حيزاً كبيراً من اهتمامه فأصدر كتاب «السلطة الثقافية في فرنسا» عام 1997 وأطلق تيارا فكريا يعرف بالميديولوجيا، وهو الوحيد من المفكرين الكبار الذي تجرأ على الكتابة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في كتابه «رسالة إلى صديق إسرائيلي» يوجه نقدا غير مسبوق من كاتب أو مفكر فرنسي لإسرائيل يقول فيه: أنتم النموذج الأصلي وأميركا نسخة عنكم تحالفكما يسري في دمكم، «وفي كتابه» ما الذي تبقى من الغرب يجد أن هذا الغرب هدفه تحويل العالم إلى سوق كبيرة سكانه فقط مستهلكون لا ذاكرة لهم ولا قيم.
يرفض دوبريه العولمة وينتقدها بشدة ويرى فيها تباعدا فكريا بين المجتمعات فهي تزيل الحدود الاقتصادية لكنها لا تزيل الحدود الثقافية فهو يدافع عن التنوع والاختلاف الثقافي وأن من لا حدود له لا مستقبل له وهذا ما نجده في كتابه «في مديح الحدود» حيث يقول: أكبر عيب لثقافة أن تكون وحدها. كما يحاول دوبريه اليوم أن يرسم للعلمانية في فرنسا مساراً جديداً حيث قدم في هذا المجال كتابا بعنوان: «العلمانية يوماً بيوم – دليل عملي» وفي كتاب «ما هي داعش» يحلل دوبريه ظاهرة الإرهاب الجديد قائلا: نحن أمام عدو قاتل وداعش اسم يثير التقزز ويحدث الرعب.
وبالعودة إلى ما كتبته صحيفة لوموند تعليقا على فيلم وثائقي خصصته قناة Arte لهذا المفكر الكبير تقول: إننا نكتشف رجلاً غير منتظر حيث نجد في فيلم «حكاية صيف» ريجيس دوبريه صادقا جدياً وكأنه بابا الفاتيكان حين كان في زهوة الشباب يؤنب الرأي العام الفرنسي على غياب مشاعره الإنسانية حيال القضية الجزائرية وتمر أمامنا صور أبنائه لورنس وأنطوان ونستمع لمحادثاته مع رئيس وزراء شيراك دومينيك دو فيليبان ومع الزعيم الاشتراكي جان بيير شوفينمان والزعيم الكوبي فييدل كاسترو ومع الفيلسوف جورج بيريك وآخرين.
ومن بين الذكريات العائلية تبرز وثيقة شهادة انتماء إلى العرق الآري سلمت لوالدته جانين عام 1941 ولا يتذكر عن تلك الحقبة سوى انسحاب القوات الألمانية من فرنسا عام 1944 وهو يحاربها بسيفه الخشبي إلى جانب جدته. ودوبريه ابن أخي أستاذ الطب الشهير في علم التحليل النفسي بيير دوبريه ريتيزين، أما ذكرى تجربة مراهقته التي لا ينساها فهي يوم رؤيته للبابا «بي الثاني عشر» في كنيسة القديس بطرس في روما ليفقد بعدها اعتقاده بالدين وهو في سن الخامسة عشرة حيث كان يسود جو الماركسية والوجودية نهاية الخمسينيات لكنه لم ينكر المفهوم الديني كدعامة للسياسة ويوم التحق بالمقاومة الكوبية ثم البوليفية إلى جانب غيفارا حمل أوساطه الكاثوليكية على إدراجه في قائمة «المواطنين السيئين» وحرمته جدته من الثروة غير أن والديه دعماه بقوة حين وقع في أسر السجون البوليفية وما يزال دوبريه يسكن في البناء ذاته الذي كان يسكنه الشاعرالمارتينيكي ايمي سيزار بالقرب من ساحة أوديون الباريسية ويؤكد أنه ابتعد عن أمور السياسة والمنابر لكن هذا لا يمنع من متابعة الإصدارات ويرى لويس ألتوسر الأستاذ في المدرسة العليا أن دوبريه هو فيلسوف المستقبل فهو موسوعي الموضوعات غزير الإنتاج لديه أكثر من 72 كتابا يشرح لنا في كتابه «نقد العقل السياسي» انفصاله الجزئي عن اللينينية والماركسية، أما كتابه «محاضرات في الوسطية» فهو عبارة عن بيان سياسي لعلم جديد حول دراسة المادية الروحية وانتقال الأفكار وكان المشروع يقوم على البحث عن جدوى الأفكار لدى السلطة الثقافية في فرنسا التي لجأت إلى دراسة عامة لتقنيات انتقال الأفكار.
أما فيما يتعلق بممارسات الإعجاب الأدبي الذي يملأ كتابه الأخير «دفتر طريق» فقد احتوى الكتاب على كل كتاباته الأدبية التي صاغها بضمير المتكلم المفرد طوال ما يزيد على نصف قرن.
ونرى أن هذا الجمهوري يولي الأهمية لكتاب من اليمين مثل سيلين ومورياك يقول:
هل يمكن أن يكون هناك كاتب يساري؟ ويرى أن ذلك صعب لأنه سجين الأخلاق وسجين التكهن المستقبلي وهذا فسخ للعقد وموقف معيب. فمن الصعب الاعتقاد اليوم أن يعاد ظهور كاتب مثل مالرو لأن معنى الحس التاريخي الذي ولد مع روسو قد ضاع اليوم وكان مالرو يقول: «إنني أنتمي إلى جيل رأى الدبابات تجول في كل شارع، أما جيل اليوم فلم ير إلا واحدة للعرض في ساحة غي بريد».
ويعلق دوبريه: هذا الحنين البطولي ما هو إلا باب مزيف لعصر أعيد فيه الطرح لمسألة القيم الرجولية بعد صعود التيار النسائي، أعترف أنه لدي نقطة ضعف في هذه الناحية أحاول التغلب عليها، فالجمهوري ميال أكثر للرجولة والديمقراطي للأنوثة هكذا من دون أي حكم على القيم وأستنتج أن هناك مفهومين للأنثروبولوجيا.
اليوم نرى دوبريه يتأسف على الوقت الذي أضاعه في السياسة وقد أقنعه زميله الكاتب والباحث جوليان كراك بأن هذا الوقت غير محتسب في العمر الفكري ولا يخفي دوبريه ألمه بسبب غياب الثقافة في دوائر السلطة الفرنسية بدءا من المحيط الرئاسي في عهد شيراك إلى اليوم.
إنه ألم مواطن تائه في قرن لم يخلق له وفي بوح لصديقه وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين يعبر دوبريه عن شعوره بالحزن واليأس قائلا: أنا مواطن فرنسي أعيش في ألم وأشعر بالذل والإهانة حين أرى فرانسوا هولاند فهذا يهينني وحين كنت أرى ساركوزي – وتلك معاناة يومية – كان جرحا للكبرياء، كبرياء فرنسا وليس الحنين إلى الاستكبار.