فقدت صوتي وآلمني الأمر كثيراً… وكنت في مطلع عمري كاهناً … الأب إلياس زحلاوي لـ«الوطن»: في ظل الأزمة الجهنمية حِرصُنا على بقائنا يحمّلنا المسؤولية كمجتمع حمل حضارة ويحمل اليوم مشروع إنقاذ الحضارة .. السياسة التي تنتهجها دول وعلى رأسها الولايات المتحدة، سياسة تقود إلى ما يمكن أن يكون خطر اندلاع حرب نووية
| سوسن صيداوي – تصوير: طارق السعدوني
هي الروح المقدسة التي تنشّقها كاهناً، واعتنقها عقيدةً، رافضاً أن تمشي دقات قلبه بهُدى حب أعظم من محبة اللـه، كما بقي مهتدياً بهذه الروح التي ملأت حياته نعمة، مباركة به وبعطاءاته الفكرية، مدرّجة طموحاته كي يكون صداها بوسع الأفق، وبالحكمة استطاعت كلمته المنادية بعدالة المحبة أن تصل إلى كل الأمم… نعم هو الأب إلياس زحلاوي، الأب لمئات الشباب والشابات. فهو رب العائلة لآلاف الأسر، بقيت عاطفة إيمانه المشتعلة نورا، تخفف من هموم وآلام الآخرين، وثقل أعبائهم الحياتية، قبل أن يفكر هو ذاته بأعباء قلبه الإنسانية، وتمكّن من تسديد تفكيره رغم ما جُرب به كبشري، من تجارب وامتحانات شخصية، ربما يصعب على أي كان تحملَّها، وربما يعسر على المرء فهمُها ومعايشتُها، وبالوقت نفسه التصالح معها، وبملامح رغم قسوة محيّاها، وراءها في حقيقة الواقع صبر جميل واستعانة « بمن» هو وحده «الله». وهذا أمر طبيعي. فهو بين الكثيرين مجرد إنسان سوري، يرى سوريته كبيرة بحجم العالم، وبمحبته وحرصه عليها سورية كطفلته الصغيرة المدللة التي يعشقها ولن يتوانى أبداً عن التضحية والعطاء والكفاح من أجل هويتها واسمها. وهذا طبيعي على امرئ عقله منطقي، متلمذ بكتب سماوية مباركة، يضاف إليها كتب وأبحاث وقلب بمساحة كل الأوطان.
الوطن… التقت الأب إلياس زحلاوي وتم الحديث في الكثير من المواضيع والقضايا… وإليكم الجزء الأول من اللقاء:
الأب إلياس زحلاوي يتمتع بحضور اجتماعي قوي، فمعظم من يحيط به من الناس يكنّون له كل الحب والتقدير، كيف تتعامل مع هذه النعمة، إن صحّ التعبير، وكيف تتحمل مسؤوليتها؟
سأبدأ بكلمة قالها السيد المسيح «ويل لكم إذا قال جميع الناس فيكم حسناً»، نزعة الإنسان تحمِلَه دائماً لكسب رضا الآخرين، أيا كان هؤلاء الآخرون. وفي سبيل كسب الرضا، كثيراً ما يتنازل الإنسان عن بعض قيمه، إن لم أقل عن كل القيم، وعن بعض أحلامه… ما هو نبيل فيها وما هو وسطي. من هنا كان الخطر في محاولة كسب رضا الناس. حسبُ الإنسان أن يكون! فعل «كان» يقتضي دائماً اسماً وخبراً. أنا تعودت أن أقول لمن أتعامل معهم: «كونوا» من دون اسم ولا خبر! «كونوا»! كونوا إذا… بغض النظر عن رأي الناس فيكم، في تصميم على عدم السعي وراء كسب رضا الناس، كونوا… كونوا انطلاقاً ممن قال لكم «كن». هو المعيار الأوحد. وبالنسبة إلي، ليس لي معيار آخر سوى «الله». ولذلك أشعر بعدم الرغبة كلياً في تسليط أي ضوء عليَّ. وأتذكر دائماً أن كل ما يأتيني من خير أو من أذى، هو بإذن من الله. ولذلك أشعر بطمأنينة كبيرة. الآية الكريمة تقول «ألا بذكر اللـه تطمئن القلوب». قلبي مطمئن في الله، فما شأني برضا الناس؟ وإذا اكتشفت أن بعض الناس يظهرون لي محبة ألمس فيها صدقاً كبيراً، أفرح وأعيد هذا الفرح إلى من منحنا الحياة، ومن ثمّ «أشكر الله».
أب إلياس… أنت بهذا الكلام تجمّل الواقع؟
أنا بهذا الكلام لا أحاول أن أجمّل الأشياء، أصف ما أعيش، وأصف ما يبرّر في نظري ثباتي في ما أنا فيه. هذا في ما يتعلق بابتعادي عن الضوء أو الضجيج الاجتماعي. وكما قلت، إذا جاءني ضوء ما، أرده إلى صاحب الضوء، الذي لا نور قبله ولا بعده. اللـه نور السموات والأرض. وبهذا الكلام أنا أقول ما أعيش. بالطبع مثل هذا الموقف لم يأت مرتجلاً، ولم يأت وليد لحظة. أتى وليد خبرة طويلة أكسبتني هذه القناعة الكاملة، بأن السعي وراء رضا الناس، كثيراً ما يكلّف الإنسان حتى ذاته. وإذا خسر الإنسان نفسه وربح العالم، فماذا يحصد؟.
الكلمة هي مفتاح للقلوب والعقول… ما أهمية الكلمة في حياة الإنسان؟
الكلمة وُلِدت مع الإنسان. العلماء يحارون في كيفية ابتكار اللغات عند البشر. في كل منطقة لغة، ولكل منطقة لهجة. ولكن هذه اللغة وهذه اللهجة، هي وسيلة تواصل بين الناس. ولولا الكلمة لانقطعت العلاقة بين الناس. من هنا أهمية الكلمة في حياة الإنسان. وهنا يبرز دور سورية. سورية كانت مهد الأبجدية. فالأبجدية مكّنت البشر من أن يتواصلوا بعضهم مع بعضٍ. السوريون ابتكروا لغتهم. الشعوب الأخرى ابتكرت لغاتها. هذه اللغات كانت بحاجة إلى رموز تُكتب بها الكلمات. سورية أبدعت هذه الرموز في المرحلة الأولى، والشعوب الأخرى أبدعت بدورها رموز لغاتها. هنا أسأل نفسي وأسأل القارئ، لِمَ خصّ اللـه هذه المنطقة سورية، بإبداع الأبجدية، وبإبداع كل الحضارات، بدءاً من السكن، إلى الزراعة، إلى العمارة، إلى الري، إلى الموسيقا، وإلى أمور أخرى… كل هذه الأمور يجب أن نتذكرها بمجرد تذكرنا اسم سورية. وعندما أقول سورية، أقول الإنسان السوري. يقيني بأن اللـه خصّ هذه المنطقة، وخصّ إنسان هذه المنطقة، بموهبة يتميّز بها عن غيره.
إذاً من واجب الإنسان السوري أن يتذكّر في الوقت الحالي الأهمية الخاصة بسورية، والمطمع الكبير في طي حضارتها إلى الأبد.
سورية منطقة مميزة عن غيرها. ويجب أن يتذكر، هذا الإنسان السوري، وعلى الأخص في ضوء هذه الأزمة الجهنمية، التي أُريد لها أن تلغيَ وجودنا كلياً، والتي تستدعي منا في مواجهتها، حرصنا على بقائنا، لا كأفراد، ولا كمنطقة جغرافية، بل كمجتمع حمل حضارة، ويحمل اليوم مشروع إنقاذ الحضارة. فالحضارة اليوم مهددة. لست أنا من يقول هذا الكلام. هناك كبار المحللين التاريخيين والاجتماعيين والسياسيين، الذين يخشون من اشتعال شرارة مفاجئة، تسبّب حرباً ذريّة تدمّر العالم كله. والسياسة التي تنتهجها بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، سياسة تقود حتماً، شئنا أم أبينا، إلى ما يمكن أن يكون خطر اندلاع حرب نووية. أحد كبار الكتّاب، وهو أمين معلوف، صدر له كتاب عام 2011، بعنوان «اختلال العالم»، يقول فيه جملة صغيرة تختصر كل ما يمكن أن يقال: «أميركا تشبه اليوم، في تعاملها مع العالم كله، حصان البحر الضخم، الذي يسير على الأرض وهو يعتبرها حقلاً من التوليب، ليس ما هو أرق منه، وحصان البحر يسحقه، ولا يلتفت لمن يسحق».
إذاً العالم اليوم مهدد بهذا النهج السياسي، الذي تفرّدت به الولايات المتحدة لغرض تدمير العالم ونهب خيراته.
الأزمة التي نشبت في سورية وموقف بعض الدول منها، وعلى رأسها روسيا، جعلت هذا العالم يُضطر لإعادة النظر في تكوين المنهج السياسي العالمي، اليوم، بعد أن تفرّدت به الولايات المتحدة لتفرض سياستها الخاصة المدمرة على العالم. وقد أتاحت الأزمة السورية، ولكن بثمن غال جدا، لبعض الدول، وعلى رأسها روسيا، أن تعود للتمسك بالقانون الدولي، وأن تنادي بضرورة التمسك بمنح كل شعب حق تقرير مصيره. وهذا يعني أنه سوف تُزاح الولايات المتحدة من كونها قطبا متفردا بسياسة العالم، ليحل محلها قطبان أو ثلاثة أقطاب، بحيث يعود للعالم، بدءا من هيئة الأمم المتحدة التي باتت ألعوبة بيد أميركا، ويعود للعالم، احترام القانون، واحترام الإنسان، واحترام الشعوب. سورية تدفع هذا الثمن اليوم. فهي تقف في وجه مئة وأربعين دولة، وهذا أمر لم يحدث يوماً في العالم. ومن هذه الدول ثلاث وثمانون ترسل إلينا مقاتلين، خلافا لكل القوانين. فسورية محملّة برسالة كبيرة.
الأزمة السورية اليوم، هل تجر الإنسان السوري إلى صراع طائفي ومذهبي لم يعرفه من قبل؟
سورية كانت فسحة اللقاء بين الديانات الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، ويوم أتى الإسلام الفاتح إلى دمشق، ومنها انطلق إلى الشرق، ومن ثم إلى مصر، وإلى الأندلس، أبدع صيغة حضارية جديدة لم يعرفها التاريخ قبله ولا بعده، حيث تفرّد بالتعامل مع المسيحيين الأصليين السوريين في دمشق. تحاور معهم رغم أن المسلم وقتها كان هو الأقوى، وكان بإمكانه أن يفتح المدن ويستبيحها. بل هو احترم السكان وتحاور معهم. وفي تلك الأيام كان بين كبار وجهاء المسيحيين جدّ ووالد «يوحنا الدمشقي»، الذي صار فيما بعد القديس يوحنا الدمشقي. ومن أشد الأمور جمالا في ما حدث، بعد دخول المسلمين إلى دمشق، أنهم كانوا يصلّون في مكان واحد، مدة سبعين عاما، في ما هو اليوم مسجد «بني أمية»، يوم كان كنيسة «يوحنا المعمدان». ويروي المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان، طلب بعد عدة سنوات، من الوجهاء المسيحيين والمسؤولين الكنسيين، تحويل الكنيسة إلى مسجد، على أن يبني لهم أربع كنائس كبيرة كي يتاح للمسلمين أن يصلّوا في مسجد خاص بهم، فرفضوا، فاحترم قرارهم. فاستمرّ المسيحيون والمسلمون يصلّون في مكان واحد، من عام 636 حتى عام 705. وعندما أتى الوليد بن عبد الملك، وأراد أن يكون للمسلمين أيضاً مسجد لائق، حاورهم فرفضوا، فأخذ الكنيسة عنوة. ولكنه بنى لهم بالمقابل أربع كنائس كبيرة. هذا التاريخ لا يجوز لنا أن ننساه. وهو يدلّ على عمق العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، القائمة على المودة والاحترام العميق كما يقول القرآن الكريم. هذا يجب أن نتذكره أيضاً وخصوصا، إذ نرى ما يجري في سورية في هذه الفترة. فالإنسان، إن لم يكن له رصيد، سواء من تاريخه الشخصي أو الاجتماعي، لا يملك شيئا. ونحن لدينا رصيد كبير وعميق. ونحتاج إلى تذكّره في هذه الأزمة بالذات، لكي نمكّن أنفسنا أفرادا وجماعات، من الخروج مما أرادوا أن نكون فيه من طائفية لم نعرفها، من مذهبية لم نعرفها، من قهر للآخر لم نعرفه.
في البدء كان الكلمة… أب إلياس كيف أثّرت فيك الكلمة كاهناً وإنساناً؟
الكاهن إنسان يعيش إيمانا متميزا. المسيحي بإيمانه ينطلق من أن اللـه بكلمته أصبح إنسانا حبا بالإنسان. قد أختلف معك حول هذه العقيدة، ولكنك تحترم عقيدتي، كما أحترم عقيدتك. وإذا كنت مؤمنا بأن «الله محبة»، فعليّ أن أكون أنا أيضاً محبة، المحبة هي الحاجة الأولى بين الناس. وبالبديهة الإنسان يتصورها، وهي تكتمل في علاقة بين الرجل والمرأة. وهذا أمر طبيعي ومشروع ومفرح. فالمجتمعات كلها تعيش عليه. في المسيحية يتفرد بعض الكهنة بقطع هذه العلاقة الإنسانية الطبيعية، لكي يكون الإنسان بالكلية في خدمة الله، وبالتالي في خدمة الناس. الإنسان عندما يتزوج، يختار صبية، والصبية تختار شابا، وكلاهما يرجو إنجاب بضعة أبناء، يفرحان بهم، والأطفال يفرحون بوالديهما. وهذا يعيشه كل إنسان. وهو شيء رائع. ولكن الكاهن، إذا اختار ألا يتزوج لكي يكون متمتعا بقدر أكبر من الحرية في خدمته، فهذا من حقه أيضاً. وطبعا يترتب على هذا الاختيار، عبء كبير، فليس من السهل على الرجل أن يتخلى عن علاقة مع الأنثى، لأنه يترتب عليه نقاء متواصل في تعامله مع جميع الآخرين، وخصوصاً مع الأنثى، طفلة كانت، أم صبية، أم امرأة. وفي الوقت نفسه، فإن خدمته تتطلب منه أن يكون منفتحا للجميع. لم أقف نفسي لله، كي أفصل نفسي وعقلي وقلبي، عن هذه الفئات أو تلك. صحيح أنني أنتمي كإنسان، إلى جماعة مؤمنة محددة، من طائفة محددة. ولكنني ككاهن، أريد أن أكون للجميع. أحياناً كان يأتيني من الأشخاص من يقول لي: «أبونا أنا مسلم». فكنت أرد عليه، وأقول له: «أنت إنسان». فكلمته هذه كانت تجرحني، وكان البعض يفاجأ. طبعاً هذا الأمر اكتسبته منذ طفولتي. كنت أعيش في حي زال اليوم بسبب امتداد شارع بغداد. هذا الحي تجاور فيه المسلمون والمسيحيون. وكنا نلعب في الحقول. والحقول كانت لفلاحين مسلمين. وكانت العلاقة بين أهلنا وهؤلاء الفلاحين المسلمين، علاقة مودة وصداقة. وعندما كنا نلعب ونسيء بلعبنا للمزروعات، لم يكونوا يقولون لنا شيئا، بل كانوا يأتون إلى أهالينا ويقولون لهم: «يا فلان قولوا للأولاد يضبوا حالون شوي»! كنا نلعب مع بعضنا البعض، أطفالا مسيحيين ومسلمين. وحتى اليوم، عندما ألتقي بعضهم، نلتقي كما كنا أطفالا، لم يتغير شيء بمحبة ومودة رائعة. إذاً علاقة الإنسان بالله، إذا كانت ستؤثر في الآخر، فلا يجوز لها أن تؤثر إلا في اتجاه المحبة. وبنظري يجب أن يكون الكاهن للجميع. وإذا جاء من يريد أن يحدّ علاقته بالناس، فعليه أن ينتفض ويرفض، وأن يصرّ على بناء علاقة قائمة على خدمة جميع الناس، ومحبة جميع الناس. هذا الكلام ليس نظرياً. فهو من خبرة عشتها. وأنا سعيد لأنني عشتها. فالله كالشمس. نوره ودفؤه للجميع. ونحن من واجبنا أن نقوم بعلاقات مع الآخر، بحيث يصل هذا النور والدفء للكل، كي نصل جميعاً إلى المضمون الحقيقي لكلمة إنسان.
بعد أن خسرت صوتك… كيف عشت الكلمة؟
فقدت صوتي، وآلمني الأمر كثيرا. وكنت في مطلع عمري ككاهن. وفي الكنيسة، الصوت له أهمية كبيرة في إقامة الصلوات، لأنه يترك تأثيرا في الناس، وخصوصاً في الصلاة. فمثلا عندما تستمع إلى تلاوة من القرآن الكريم، بصوت عبد الباسط أو محمد صديق المنشاوي، تُذهل وتُسحر. أنا فقدت صوتي فجأة إثر مرض. ربما الأطباء لم يعرفوا كيف يعالجونه. ربما أنا أسأت التصرف، لأنني أصبت بفترة كنت أدرب فيها الجوقة خلال أسبوع الآلام، وخلال أسبوع الآلام الاحتفالات رائعة ولكنها تقتضي مجهودا جبارا، وضغطت كثيراً على الحبال الصوتية. وبعد أسبوع الآلام والفصح، اكتشفت أنني فقدت الصوت. كنت في الثالثة والثلاثين من عمري. فشعرت بأن كل شيء قد انهار، حاولت الخروج مما أصابني بالطب وبالصلاة، وحاولت بالقراءة. ولكن المحاولة الأجدى، كانت وجود بعض الأصدقاء حولي، إذ كانوا يمدونني دائماً بحضورهم وصمتهم وصلاتهم وبمحبتهم. ولقد وُجد حولي أيضاً إنسان كان متميزا، هو المخرج «سمير سلمون»، الذي شجعني على كتابة المسرح، وأعطاني نصاً لكاهن كتبه من زمان، وطلب مني أن أعدّه. قرأت النص وأعددته، فلاقى نجاحاً. هذا النجاح شكّل حافزا لدي. وكان أن مضيت إلى صافيتا، وفيها كاهن كبير في السن، كان بمنزلة أب لي، هو الأب «يوسف صقر». وقد توفي عام خمسة وثمانين. وحتى يومنا هذا الكل يعرف في صافيتا من الأب «يوسف صقر». فهو إنسان لا مثيل له. فالجميع كانوا يحبونه ويثقون به. كان عملاقا بجسده وعملاقا بقلبه. فكنت أمضي عنده بضعة أيام في خلوة كاملة، أكتب النص المسرحي وكأنني أسمع الممثلين وأراهم، ثم أعود إلى دمشق. وكنت أسلّم النص لـ«سمير سلمون». وكان سمير يجمع حوله عدداً من الشبان الثانويين أو الجامعيين، ممّن لم يكونوا قد صعدوا خشبة المسرح. وكان سمير يستقبلهم في غرفته الصغيرة، ويدربهم على النطق واللفظ السليم والحركات بطواعية ومجانية وبصبر هائل، والغريب بالأمر أن هؤلاء الشبان والشابات كانوا دائماً يحصدون الجوائز الأولى. من ذلك أن سمير، خلال إعداده لمسرحية «المدينة المصلوبة» طلب من شاب اسمه «سمير جبارة»، أن يأتي إلي في البطركية ويجلس في مكتبي صامتا ويراقبني، على حين كنت أنا أنصرف إلى شؤوني. وعندما مثّل «سمير جبارة» دور الأب عيسى في المسرحية، كان الناس يقولون «هذا أبونا إلياس». وهكذا تابعت العمل في سائر المسرحيات.
الطريق مع الأب إلياس زحلاوي طويل ولم ينته، محطات أخرى على مفارق طريق حياة الأب إلياس زحلاوي ستكون معكم بأجزاء قادمة.