قضايا وآراء

«حزب» النواحين

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي 

تشعر القيادة الروسية أنها تمتلك في ميدان المعركة في سورية هامش مناورة كبيراً نظراً لأنها تتحالف مع الطرف الأقوى عسكرياً على الأرض، في مقابل هامش مناورة ضيق أمام الولايات المتحدة، وذلك بسبب ما تفرضه معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية من حسابات دقيقة، تتطلب تحقيق انتصار حاسم على داعش رمز الخطر الإرهابي الوهابي المتنامي في الشرق الأوسط والذي لفح لهيبه وجه واشنطن في العملية الأخيرة في أورلاندو، وما سبق يتناقض مع ما تفرضه التحالفات الإستراتيجية الأميركية في المنطقة من ضرورة مراعاة موقف حلفاء واشنطن الإقليميين الحرج، وفي مقدمة هؤلاء تركيا والسعودية اللتان ألقيتا بكل رهان سياستهما الخارجية في خانة إسقاط الدولة السورية، ومن خلفهما إسرائيل التي يبدو أن آخر ما تتمناه أن ينتهي الصراع في سورية، والدولة السورية وحليفها حزب اللـه منتصران وقد اكتسبا شراسة القتال.
وبينما يخوض خصوم واشنطن معركتهم المصيرية بقواهم الذاتية، يقاتل حلفاؤها بالتنظيمات الإرهابية الوهابية من متفرعات القاعدة، والتي تمتلك أجندتها الخاصة المهددة للأمن الإقليمي والعالمي، وإن تشاركت مع أميركا وووكلائها في المنطقة في هدف إسقاط الدولة السورية، لذلك نرى القرار الأميركي يتأرجح بين الرغبة في إرضاء الرأي العام الأميركي بإنجاز ضد داعش على الأرض يزيد من فرص المرشحة الديمقراطية في معركة الانتخابات الأميركية من جهة، وبين ضرورة المحافظة على مكان ما للحلفاء الإقليميين في الحل السياسي المقبل في سورية، فالولايات المتحدة تمارس في النهاية نفوذها في المنطقة من خلال هؤلاء الحلفاء، خصوصاً بعد الوضع الذي سينشأ عقب سحب آخر ما تبقى لها من قوات عسكرية على الأرض من أفغانستان في نهاية هذا العام كما هو مقرر.
وما سبق يفسر الطريقة الروسية الباردة في إدارة المعركة في سورية، ويفسر الانتقال الروسي السلس بين مد اليد للخصوم بجزرة المفاوضات السياسية حينا، وبين العودة لساحات الحسم العسكري حيناً آخر.
وإذا كان مفهوماً أن يقع جزء من الجمهور المؤيد للدولة السورية تحت تأثير الدعاية المشككة بحقيقة الموقف والأهداف الروسية، وذلك نتيجة للاختلال الواضح في ميزان القوى الإعلامية بين طرفي الصراع في سورية، وفي ظل ما يضعه أعداء سورية الإقليميون من إمكانيات مالية ضخمة في خدمة الماكينة الإعلامية المستخدمة في تغطية المعركة منذ اللحظة الأولى، حيث شكل الإعلام رأس الحربة في الهجوم والعدوان الذي تتعرض له البلاد شعبا وجيشا ودولة، وفي التشكيك في موقف الحلفاء، فإن غير المفهوم هو سقوط نخب ومؤسسات إعلامية محسوبة على معسكر المقاومة في فخ الترويج لفكرة التشكيك في موقف الحليف الروسي عند كل مفترق طرق سياسي تمر فيه الأزمة السورية، وخصوصاً عندما يرتفع التشكيك مقابل الطمأنة التي توجه بها الرئيس الأسد نفسه للسوريين عن موقف الحلفاء في آخر خطاب ألقاه، فهل نسي هؤلاء أن مبدأ المشاركة العسكرية الروسية المباشرة في الحرب السورية لم يكن مطروحا للتداول أصلا قبل عام فقط، وهل نسوا أنهم أو قسم كبير منهم كانوا يشككون حتى في إمكانية صمود روسيا على موقفها السياسي الداعم للدولة السورية في مجلس الأمن، كما أن قسما آخر شكك في حقيقة مواقف حلفاء سورية الآخرين (إيران وحزب الله) في مراحل أخرى من الصراع، وشكك قسم ثالث خلال مفاصل مهمة من المعركة بطبيعة الأزمة التي تتعرض لها سورية (ثورة أو مؤامرة)، وبمدى نجاعة القرارات التي تتخذها القيادة السورية رغم خطورة التشكيك بمواقف القيادة أثناء المعركة.
لقد حققت الإدارة الدبلوماسية الروسية لملف التفاوض حول الحل في سورية سلسلة من الإنجازات منها انتزاع الاعتراف الأميركي ولو نظريا بتصنيف جبهة النصرة كتنظيم إرهابي (بيان ميونخ)، كما ساهمت المشاركة العسكرية الروسية في تحقيق سلسلة انتصارات قلبت المعادلة العسكرية على الميدان السوري، من تحرير ريف اللاذقية إلى تحرير تدمر، وأخيراً خطوة الاتجاه شرقا نحو الطبقة والرقة ودير الزور، التي أنهت الآمال الأميركية باختطاف المنطقة الشرقية من سورية لمصلحة أطراف معارضة حليفة لواشنطن، ما يمهد لدخول أميركا مائدة التفاوض النهائية حول سورية وبيدها أوراق قوية صالحة للصرف سياسيا، عكس ورقة التنظيمات الإرهابية القاعدية التي لا تمتلك أي أجندة أو طموحات سياسية، وبالتالي لا تبدو صالحة للمقايضة على أي مناصب في الحكومة السورية التي تلي التسوية النهائية.
تعني معركة سورية لروسيا الكثير، فهي معركة إثبات الذات كدولة عظمى شريكة وغير ملحقة بالسياسات الغربية، كما أنها معركة حماية الأمن القومي الروسي من تهديد السلفية الجهادية العالمي، ولا يعني التحليل السابق أن روسيا أضحت عضواً في محور المقاومة، وهو ما ليس مطلوبا منها أصلا، فبالقياس التاريخي إلى موقف الاتحاد السوفييتي من الصراع العربي الإسرائيلي لم تتبن القيادة السوفييتية خلال تاريخها كله قضية تحرير فلسطين، بل طالبت بالحل السلمي المرتكز لقرارات الشرعية الدولية، ولم يمنع ذلك العرب من الاستفادة من الدعم السوفييتي، حيث سقط أكثر من 95% من الإسرائيليين القتلى طوال عمر الصراع العربي الإسرائيلي بسلاح سوفيتي الصنع، قدم معظمه للعرب بمقابل رمزي كما يؤكد ذلك في كتبه الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان اللجيش المصري في حرب تشرين، بل إن الاستفادة العربية من الموقف الروسي امتدت لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تسببت الصواريخ الروسية الكورنيت بمجازر للدبابات الإسرائيلية في جنوب لبنان وغزة، وأجمع الخبراء العسكريون على أن التهديد الذي وجهه أمين عام حزب اللـه بتطبيق حصار بحري على كامل الموانئ الإسرائيلية في حال إقدام جيش الكيان على أي عدوان على لبنان، إنما يرتكز أساساً على امتلاك المقاومة لصواريخ الياخونت الروسية الصنع التي ابتاعتها سورية من روسيا في صفقة 2007.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن