«مزن الخريف» و«صدى الحنين» ذكريات وحياة في الشعر
| عامر فؤاد عامر
وقفتُ طويلاً أمام هذا العنوان وأنا أقلّب المعاني به متسائلاً: لماذا اختار الشاعر جميل حداد هذا العنوان؟ حتى اهتديت في نهاية الأمر إلى المعنى الكامن خلف هذه التسمية، فكلمة «المزن» تعني تهطال المطر، وهو هنا يشبه الشعر الذي تدفق في وجدانه بهطل المطر… أمّا لماذا الخريف؟ فلأنه أفلت عقال هذا الشعر وهو في خريف العمر، أي حينما أصبح على أبواب الثمانين، فكان عنوان الديوان «مزن الخريف»… هذا ما كتبه «محمد حديفي» في مقدمة الكتاب. رتب الشاعر «جميل حداد» قصائده حسب تواريخ كتابتها ومكان نظمها، حيث جاءت وكأنّها سجل يومي لحياته، وهذا ما ذُكر في المقدمة أيضاً، ومن الرغبة في كتابة هذا الشاعر للقصيدة نجد أنه يريد أن يكون حيّاً في ذاكرة الذين أحبّوه وأحبّهم في مسيرة حياته وتجاربه الكثيرة.
تميّزت قصائد هذا الديوان أيضاً بالتطرق إلى المناسبة الوطنيّة، ورمزها في قلب المواطن المنتمي بتجذّر لبلده، فكانت هذه القصائد المتعددة في عناوين مثل: «دمشق يا قلعة التحدّي»، «سمعت غزّة تشكو ظلم غاصبها»، و«أنين الوطن»، و«مهداة إلى كلّ معلم»، و«عصفورة النيربين»، و«تحيّة المعلم»، و«شربت من بردى»، و«جبل العرب»، و«لغة الضاد»، و«سليمان العيسى رمزٌ من الماضي»، و«نبع الشهادة»، و«الشهيد»، و«أنين العراق»، و«بلاد العرب أوطاني»، و«أنشودة الشام»، و«سورية يا روضة المجد»، و«غوطة دمشق»…. وغيرها.
جمع الكتاب الكثير من القصائد التي تنتمي للحياة الشخصيّة والمشاركات الاجتماعيّة للكاتب، فهناك الكثير منها الذي يمسّ مناسباتٍ لأشخاص مقربين يحتفي بهم على طريقته الخاصّة من خلال نظم القصيدة.
اتكأ «حداد» في بعض قصائد الكتاب على الحالة الشعرية ومختاراتٍ أحبها كما في قصيدة «قصّة العمر» التي كان صدر البيت الأول فيها للبحتري:
«صنت نفسي عما يدنس نفسي
ووهبت القصيدة يومي وأمسي
مدبرٌ مقبلٌ يعدّ الليالي
والليالي تقود سعدي ونحسي
برعماً كنت في طليعة عمري
واكب الفقر مستفيض الحسّ
وقضى عمره يروح ويغدو
طالب العلم جيبه دون فلس.
نجد أيضاً في الكتاب قصائد تخص شخصياتٍ وطنيّة وعروبيّة مثل قصيدة «سلطان الأطرش»، وقصيدة «تحية لروح المرحوم حافظ الأسد» وغيرها. إضافة لأسماء عدد من الشهداء وعائلاتهم، وفي مواقع أخرى نجد تسمياتٍ لمدن وأبيات ليست بالقليلة في وصفها والكلام عنها مثل دمشق، وحمّام القراحلة، وباريس، وبيروت، وسلقين، وحلب، والأبابة في مصر، وبغداد، ومعرّة النعمان، ودبيّ، وبيت ياشوط، وحماة، وجبلة وغيرها. ومن قصيدة عصفورة النيربين (حنين إلى دمشق) نقتطف:
عصفورة النيربين غنّي
غناؤك اليوم قيدُ قيدُ التمنّي
فقلبي يئنّ بجرح عميق
فأنتِ دواءُ الجراح فحنّي
سألتُ بالأمس جيران أمسي
فساء الجوابُ بفعل التدنّي
سألتُ عنك فلم تجيبي
فأنتِ عندي سحاب مُزن
يُسطّر «حداد» في «صدى الحنين»، وهو ديوان آخر له، مجموعة من القصائد، ولكن في مقدمة الكتاب يذكر «محمد إسماعيل الشيخ»: «أجل، إنه الحنين الذي يجده أسمى مراتب الوفاء، فهو– برأيه– ينبعث من أغوار القلب ليضطرم في أرجائه مسعراً لظاه أنيناً مكتوماً تصطلي به النفس راضيةً مرضيّة ولا يبديه إلا الصدى الذي يتردّد أسى ولوعةً وحسرة، ليكون حقّاً: صدى الحنين».
يجتهد شاعرنا في نفس الروح كما في كتابه الأوّل، فقصائد المناسبات الخاصّة والمناسبات الاجتماعية حاضرة كما نجد قصائد المناسبات الوطنيّة مثل قصائد: «الربيع الآخر»، و«يا ربانا»، و«يوم الجلاء»، و«تحيّة لأمي»، و«ذكرى الشهداء»، و«تحيّة للعمال في يوم عيدهم»، و«ميسلون»… وغيرها. إضافة لقصائد رويت عن مدن وبلاد زارها شاعرنا فكتب القصائد فيها وعنها مثل قصائد: «شوقيّات دمشق»، و«أزقة الشام»، و«الإمارات»، و«حلب الشهباء»، و«إمارة الشارقة»، و«باريز مرّة أخرى»، و«حيّ الميدان»، و«الزبداني»، و«القدس» وغيرها. من قصيدة القدس نستعرض هذه الأبيات:
رأيتُ القدسَ تبحث عن صديقٍ
فقلت لها أفي الدنيا صديقُ؟
أجابتني وفي عينيها دمع
لقد ضاعوا وضلّ بنا الطريق